أخبار

الحرب تترك ندوبا عميقة في نفوس السوريين

نور ابراهيم

لم أتردد كثيرا قبل أن أتوجه للعيادة النفسية، فحالة الاكتئاب التي امر بها قد طال أمدها وينبغي إيجاد حل لها، أخذت موعدا من الطبيب الذي عانيت خلال بحثي عمن تبقى من أطباء نفسيين في دمشق وقصدت عيادته.

غرفة الانتظار ممتلئة، على ما يبدو أن مواعيدا كثيرا على جدول الطبيب، وجدت كرسيا بجانب سيدة متشحة بالسواد يجلس ولدها بالقرب منها، إنه شاب بالعشرينات من عمره وعلى العكس من والدته التي ردت تحيتي لها بابتسامة لم يرد هو السلام أبدا بل يبدو وكأنه لم يسمعني.

انتظرت طويلا، الوقت يمر ببطء وأنا أكره الانتظار، شعور مشترك بيني وبين السيدة التي بادرت بمبادلتي الحديث وسألتني: “شاطر الدكتور؟” أجبتها “نعم جميع من سألتهم أكدوا لي ذلك”.

أخبرتني بأنهم قادمون من دير الزور المدينة التي تبعد عن دمشق أكثر من اثنتي عشر ساعة وبأنها بحثت طويلا عن طبيب لعلاج ولدها بعد أن سئمت من الأطباء الآخرين الذين لم تنفع علاجاتهم مع حالة ولدها.

بدأت قصة ابنها محمد البالغ سبعة وعشرين عاما حين تم سوقه إلى الخدمة الإلزامية قبل خمس سنوات، لم يستطع الفرار من الجيش ولم يكن راغبا بالقتال في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وفي إحدى المرات حاصرت قطعته العسكرية مجموعة من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية واستمر الحصار لأكثر من شهر، قتل العديد من رفاقه خلال هذه الأثناء وكان هو من بين القلائل الذين نجوا من هذا الحصار، لكنه تعرض لإصابات بليغة تم تسريحه على إثرها.

منذ ذلك الحين لا يتكلم محمد مع أحد تنتابه طول الليل نوبات هستيرية ولا يستطيع النوم إلا عن طريق المهدئات التي وصفها الأطباء “لم ينم منذ خمسة أيام وازدادت حالته سوءا فقررت أن آتي به إلى دمشق لعرضه مجددا على الأطباء”.

محمد هو واحد من مليون سوري يعانون من اضطرابات نفسية شديدة بحسب تصريح سابق لمدير الصحة النفسية في وزارة الصحة في الحكومة السورية الدكتور رمضان محفوري الذي عزا زيادة الأمراض النفسية والعصبية في سوريا إلى الحرب السورية وتبعاتها.

في النزاعات المسلحة يعاني الناجون من الندوب الخفية لهذه النزاعات. إذ يعاني 17% من نجوا من النزاعات المسلحة من الاكتئاب، ويعاني 15% من اضطراب ما بعد الصدمة. لكن المحزن أن 85% لا يستطيعون الحصول على العلاج. وذلك بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

من جانب آخر، لا تتوافر الخدمات الطبية الكافية والرعاية اللازمة للمصابين بالاضطرابات النفسية في سورية، إذ لم يبق هناك سوى ثلاثة مشافي نفسية تخصصية تعمل حالياً وهي: مشفى ابن رشد للأمراض النفسية – دمشق (أمراض نفسية وعلاج إدمان)، مشفى ابن سينا – ريف دمشق (أمراض نفسية وعصبية) إضافة إلى مشفى ابن خلدون – حلب (أمراض نفسية) يضاف إليها بعض الشعب والعيادات النفسية في بعض المشافي العامة كمشفى المواساة الجامعي – دمشق، المشفى الوطني – اللاذقية، والمشافي التابعة لوزارة الدفاع (تشرين – اللاذقية – حمص).

وبحسب معايير “منظمة الصحة العالمية”، من الضروري توافر طبيب مع فريق مجهز لكل 10 آلاف شخص، وذلك يعني أن سوريا تحتاج إلى 2000 طبيب كحد أدنى، لتغطية الاحتياجات النفسية التي تضاعفت مع الحرب. لكن ما يتوافر من العدد المطلوب هو عشرات الأطباء فقط يتركز جلّهم في العاصمة السورية، ولا يغطون أكثر من 10% من حاجات المرضى.

لا يستطيع جهاد (7 أعوام) النوم إلا بقرب والديه، يبدأ بالصراخ حين يسمع صوتا قويا، الأحلام المزعجة والكوابيس لا تزال تلاحقه، ورغم متابعته من قبل طبيب مختص، إلا أن حالته النفسية تتحسن ببطء شديد.

فسنوات الحصار التي عاشتها عائلة جهاد في الغوطة الشرقية قد تركت ندوبا عميقة في نفسية الطفل، وأصوات القصف والطيران لا يمكن نسيانها بسهولة.

تسببت الحرب بالعديد من الرضوض والامراض النفسية كان أبرزها “اضطراب ما بعد الصدمة” بحسب المعالجة والأخصائية النفسية رهام محمد.

وهو حالة صحية عقلية يستثيرها حدث مخيف، تتضمن أعراضه استرجاع الأحداث، والقلق الشديد، بالإضافة للأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث.

وأبرز الأحداث التي تسببه المعارك، الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، والاعتداء الجسدي أو السرقة، الاختطاف إضافة إلى وفاة أحد أفراد العائلة.

وتضيف رهام بأن من أعراضه أيضا الكوابيس واضطرابات في النوم، إلى جانب الذكريات الاقتحامية المؤلمة المتكررة وغير المرغوب فيها للحدث الصادم. وقد تولّد أحداث عادية هذه الذكريات أو تحفّزها رائحة أو صوت معين. ويحس من يختبر اضطراب ما بعد الصدمة بالحاجة لتجنّب مواقف وأماكن تسبب له الكثير من الإزعاج.

تقول رهام: “قد تبدأ الأعراض في غضون شهر واحد من الأحداث الصادمة، لكن في بعض الأحيان قد لا تظهر الأعراض إلا بعد مرور سنوات على الحدث”.

تركت الحرب السورية على مدى السنوات الثمانية الماضية آثارا عميقة في نفوس السوريين، آثار لا يمكن محوها بسهولة في ظل نقص الرعاية الطبية والأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريين والتي تجعل جلسات العلاج النفسي من المشاريع المؤجلة.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *