أخبار

رحلة السفربرلك السورية…!!!

ريان محمد – دمشق – ” خاص أنا قصة إنسان “

كان عائداً من عمله  , يحمل بيده ثوباً جديداً لابنته التي جاوز عمرها العام بقليل، وقد أنهى مكالمة سريعة مع زوجته كانت تستعجله فيها للغداء. وقف الباص الذي يستقله على أحد الحواجز الأمنية، بعيداً عن منزله قرابه كيلومتر واحد، لتدقيق البطاقات الشخصية (التفييش)، بعد دقائق سمع العسكري ينادي اسمه، فرد مرتبكاً وهو يحدث نفسه  قائلاً :  “ما الأمر ؟! في الصباح مررت من هنا ..هل من الممكن أن يكون هنالك  تقرير ما  علي في أحد الأفرع الأمنية؟” .و كثيرة هي الأسئلة والسيناريوهات التي مرت سريعا بفكره، وهو يتجاوز تلك الأمتار القليلة مغادرا الحافلة، وكلها كانت تثير سؤالا واحدا هو” ألن أستطيع ضم ابنتي اليوم؟ “.  

 

 

يقاطعه صوت العسكري آمراً إياه بالوقوف إلى جانب الجدار، قائلا له: “أنت مطلوب للخدمة الاحتياطية في الجيش (القوات النظامية)”، بلا وعي يمسك هاتفه ليتصل بوالده الذي تجاوز الستين من العمر و يخبره بما حصل، ويطلب منه أن يأتي ليأخذ الثوب لطفلته. لحظات قليلة كانت كافية بقلب حياته رأساً على عقب، خسر عمله الذي كان ذو مردود يكفي لإعالة أسرته ،والآن سوف يرحل إلى المجهول.. دقائق ويصل والده، يعطيه الثوب، ويوصيه بابنته وزوجته، يحاول الأب أن يشد من وزر ولده ويعده بالمساعدة إلا أنه كان يعلم أن ذلك صعب جداً على شخص فقير لا معارف له في السلطة   .

وقبل مغيب الشمس بقليل بدأت رحلته  محشوراً مع عشرات الشباب من مختلف الأعمار في حافلة للنقل الداخلي، الجميع حينها كانوا صامتين، ينظرون خلفهم وكأنهم يرون عائلاتهم ومنازلهم، أو لعلهم يعتقدون أنها المرة الأخيرة التي سيرون بها الحي.

خدمة-الاحتياط1وصلوا إلى مركز الشرطة العسكرية في حي القابون .. نزلوا من الباصات، وعناصر الشرطة يصرخون بهم ليصطفوا على الجدار، عشرات الشباب بينهم الكثير من الجامعيين أعمارهم تتراوح بين الثلاثين والأربعين، تؤخذ بياناتهم، ويزج بهم في زنزانات أقل ما يقال عنها أنها غير صالحة لإقامة الحيوانات، فالنظافة شبه معدومة، حشر بها أعداد كبيرة حتى غصت، حيث لا يجد الواحد منهم مكاناً ليستلقي قليلاً، حتى أن من يستطيع الجلوس يعد من المحظوظين. ثلاثة أيام بهذه الزنزانة وعلى هذه الحال، كانت تجلب لنا كميات قليلة من البطاطا والبرغل، سيئة المذاق، ثلاثة أيام مريرة مرت علي ولا أعلم ما ينتظرني في الغد .

في صباح اليوم الثالث, نادى العسكري اسمي بذات الخطاب الذي درج طوال عقود مضت, مليئة بالتحقير والإهانات، ليحشرونا في الحافلات ,وفي الطريق علمنا أننا متجهون إلى معسكر الدريج العسكري التابع للقوات الخاصة في جبال القلمون .

وبعد نحو ساعة  من السفر , وصلنا ليدفع بنا إلى الهرولة باتجاه الباب، وسط التهديد والوعيد والتهكم، أمرنا بالجلوس على الأرض، لتؤخذ بياناتنا ثم سلمونا رداءً وحذاءً عسكرياً، إضافة إلى غطاء عسكري، لنسير عقبها عدة كيلومترات، باتجاه الأماكن المخصصة للنوم، كل ما كنا نشعر به في هذه الساعات  هو البرد القارس واليأس، وكأنها ذات المشاعر التي انتابتني عندما التحقت بالجيش قبل نحو عشرة أعوام، وما أن استقرينا على الأسرّة ، حتى اقتادنا أحد المجندين لنقص شعرنا، ولم ننتهِ من الأمر حتى بعد منتصف الليل .

ومع ساعات الفجر, استيقظنا على ضربات مدوية على الأبواب، كانت دعوة للاجتماع .خرجنا وإذ بآلاف الشباب يسيرون إلى الساحة، كان السباب للجيش والنظام يسمع علناً، كثير منهم غزا الشيب مفرق شعرهم ، وملامح الكبر ظاهرة على وجوههم، يسيرون وكأنهم متجهين إلى لحدهم، مكفهري الوجوه فاقدين الأمل بالحياة .

ويستدرك قائلاً :  ليس هذا بشيء مقابل أول خطاب سمعته من قائد المعسكر في ذلك الاجتماع، كان بلهجة ساحلية ثقيلة, متعجرفةٍ تنطق بالكراهية، بدأها:” نحن لا نثق بكم، ولا حاجة لنا بكم، إننا منتصرون من دونكم ، من يريد المغادرة فليغادر لن نتمسك بأي منكم، لا أريد أي تذمر أو فوضى، نحن نعلم أنكم ستفرون مع أول فرصة لكم” ، وغيرها من الجمل المقيتة لطوال نصف ساعة، وهو يعلم ان المغادرة شبه مستحيلة. ويتابع “كان أبشع حديث سمعته طوال سنوات الأزمة، الشيء الوحيد التي تمنيته حينها هو أن أكون في أبعد نقطة من هذا الكون , دون ان أذكر شيء من هذا البلد” .

 

 

وأضاف:  “15 يوماً بقيت في معسكر الدريج ، كانت عبارة عن مهزلة وطنية بامتياز، لا ماء للاغتسال، رغم أنه من بيننا كان هنالك شباب مضى عليهم أكثر من شهر وهم يُنقلون من سجن لآخر, حتى وصلوا إلى المعسكر، ولا طعام يكفي، فالجوع يرافقنا طوال النهار، في حين تتوفر في الندوة (محل لبيع المواد الغذائية وبعض الاحتياجات)، بعض المعلبات والمواد الغذائية، وتعود مرابحه لقائد المعسكر، من يمتلك النقود كان مجبراً على إسكات جوعه بالشراء منها، لكن الأغلبية من الشباب في المعسكر لا نقود لديهم، وخاصة أولئك الذين من محافظات بعيدة عن دمشق” .

ويتحدث قائلاً:  “لقد أشبعنا قهراً وانكسار قبل أن يتم إرسالنا إلى جبهات القتال ,وكان نصيبي في حلب، والمحزن المبكي، أني أتبعت لجماعة حزب الله اللبناني، رغم أن لمواقعه ميزات عديدة عن مواقع القوات النظامية، أهمها أنك لا تشعر بالجوع الدائم عندهم ” .

ويختم حديثة مع “أنا إنسان” قائلا : “ليس هنالك حاجة  لذكر اسمي , ليس لمخاوف أمنية، بل لأن قصتي تشبه قصة عشرات الآلاف من الشباب الذين سيقوا إلى معسكرات الخدمة العسكرية بالقوة، في وقت لا تنقطع فكرة الفرار ولا للحظة واحدة، فلا أعتقد أن المعركة معركتي، وحتى أني لا أثق بقائدي”، مضيفا “إنها سفر برلك  لكن بوجع أكبر

 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *