أخبار

في لبنان … ممنوع دفن السوريين

كانت عائشة لا تحتاج إلى أكثر من مترين من التراب لكي تريح جسد ولدها الذي سقط عن علو شاهق سعياً وراء لقمة عيش تقيه ذل السؤال، والوقوف أمام موظفي الهيئات الدولية من أجل سلة غذائية أو بضعة دولارات. لكن حظه العاثر في الحياة، لم يكن أكثر رحمة عندما سقط من ورشة كانت كل ما فيها يشي أن السوريين هم من بنوها بعرقهم ودمائهم.

قصص موت السوريين في لبنان يمكن أن تتحول لأفلام سينمائية، وتحصل على جائزة الأوسكار عن الظلم والقهر، فهنا يحتل الأشقاء مرتبة متقدمة في هذا الفن، حيث تصل تكلفة موت الفقير إلى أكثر من ألفي دولار، ويختلف السعر ضمن العاصمة وخارجها. تقول عائشة اللاجئة السورية القادمة من ريف درعا الغربي، لموقع “أنا إنسان: ظلت جثة ابني الذي سقط في ورشة مستثمر لبناني أكثر من اسبوع بمسجد القرية، و(ما حدا التكش فيها غير لدخلنا واسطة. لا مختار سمعنا، ولا رئيس بلدية، ولا نائب أو وزير.. تعبنا والله تعبنا . بدنا متر أرض للدفن  بدنا موافقة.. بدنا ننقل الجثة بدنا موافقة، وإذا بدنا نمشي خطوتين بدنا موافقة . نحنا صح نازحين بس الله يرحم إيامات نظامنا.. بيظل الكحل أهون من العمى . وآخر شي قدرنا نحصل على موافقة لنقل الجثة ودفناه بمكان قريب من الحدود السورية منشان إذا رجعنا ع بلدنا يوم من الأيام إقدر آخذ جثة ابني).

وعلى مرأى العالم، وكل دموعه المسفوكة زوراً على السوريون في لبنان، يبقى هؤلاء غرباء في موتهم كما في حياتهم. ففي بلد (الاشقياء العرب) لا عيون تبكي خلف رحيلهم، ولا أرجل تمشي خلف جنازتهم السرية، وحده التراب ودوده يحنو عليهم في آخرتهم إن وجد. تقول عائشة: بلدنا ما احترمتنا ونحنا عايشين بدك تحترمنا ونحنا ميتين. شردونا في أرض الله فلا عتب على الغرباء.

دفن السوريون في أماكن مهجورة، وبعضهم بكمشة تراب من فاعلي خير، لكن الوجع الحقيقي عندما يضطر الأهل لرمي جثة أحبابهم في البحر بعدما ضاق بها البر . ورفض النظام استقبال الموت بلا مصالحة أمنية، أو موافقة روسية. فهل تلجأ عائشة إلى حلف الناتو لكي تجلب لولدها قليلاً من التراب الأحمر؟.

المشكلة لن تتوقف على جسد ولدها الذي خار نفسياً قبل أن يترك لروحه أن تحلق عالياً، فقد بدا موته أشبه ببروفة مصغرة لموتها، فلا أحد يمكن له أن يتحمل وزر ذلك، خاصة أن أولادها صغار، ولا يعرفون أحد، فهل تأكلها الديدان دون أن يلفها قبر؟.

في العام 2015، بقيت 75 جثة لمدة ثلاثة أشهر في ثلاجات مشافي بيروت دون إيجاد حل لها، مما جعلها تتحول إلى عبء ثقيل على ذوي أصحابها، وعندما تأزم الوضع في المشافي لجأت إداراتها إلى السفارة السورية لاستلام هذه الجثث والتصرف بدفنها بعد نقلها إلى سوريا.

 المتبرعون اللبنانيون يتولون تكاليف الدفن ومراسم العزاء بعد أن يصل إليهم أحد أقارب المتوفى، ولكن الحلول باتت باهضة الثمن لارتفاع نسبة الوفيات بين أكثر من مليون وثلاثمائة نازح، وما يعادل نصف مليون مقيم، حيث تعز الأماكن على الغرباء.

ولكن هؤلاء باتوا يعرفون طريقهم الصعبة رغم التكلفة الباهظة للنقل، حيث يتوافدون إلى بلدات “وادي خالد” التي خصصت قطعة أرض ووهبتها للسوريين في قرية “الهيشة”، سميت بـ”مقبرة المهاجرين”.

تقول الكاتبة “غادة السمان” وكأن السوريين ممنوعين من الموت، كونه أمر في غاية التعقيد، لأنه يتطلب تأمين القبر، ودفع تكاليف الطبيب الشرعي، وسيارة النقل، وشهادة الوفاة، وهذا الأمر قد دفع بالعديد من اللاجئين إلى دفن أمواتهم بعد حلول الظلام بعيداً عن أعين البلديات ومديرية الأوقاف الاسلامية.

بعد أن اكتشف أيمن أن موت والده سوف يعرضه للكثير من الورطات الأمنية، والموافقات التي تجبره على الذهاب إلى السفارة السورية، شحذ من رفاقه ومن أهل الخير قليلاً من الدولارات، وأعطاها لشابين لبنانيين، اللذين قاما تحت جنح الظلام بدفنها بعيداً عن الأعين، وقريباً من الحدود السورية. حيث طلب من ربه طويلاً أن يغفر له ما قام به، على قاعدة (الحي أبقى من الميت)، ولكنه كام مصراً على راحة نفس والده باكراً، ولا يبقيه أياماً طويلة في عذابه الأبدي على قاعدة شرعية أخرى (إكرام الميت دفنه)، فقاده عقله إلى ذلك، وكانت التكلفة لا تزيد عن 500 دولار.

في الجرود المنتشرة والشقيق الأصغر لسوريا أماكن لا يمكن للعيون السورية أن تسهو عنها، وفي الليالي الباردة، يمكنك أن تعرف تلك الآلام وأنين الوجع المخبوء بالعتمة، عندما تجد جثث السوريين الأحياء، وهم يقرؤون الفاتحة على علامة ما لجثث السوريين الأموات، وقد تصطدم بشجرة صغيرة لا تعرف لماذا وجدت في هذا المكان، أو لتنكة مغروسة في الأرض، واعلم أن تحتها تسكن عظام لاجئ لم تتسع له كل المساحات والفضاءات في بلده قبل الموت، ولا اتسعت لجثته كل مقابر الأشقاء في لبنان، فسكن هنا مرغماً.. وما عليك إلا الوقوف واقرأ على هذه الأرض السلام..

سامر النجم أبو شبلي

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *