أخبار

كشف مصير المفقودين حق تتجاهله السلطة السورية

يظهر الممثل السوري جهاد عبدو وزوجته فاديا عفاش، في فيديو لحملة أطلقتها “شبكة سوريا القانونية” في هولندا تحت عنوان “بس وينن” ويقول: “من حقنا نعرف وينن، معرفة مصير المفقودين والمغيبين قسرا، حق إلنا وعلينا.. بدنا نعرف بس وينن، بدنا نعرف بس وينن”. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأن هناك حوالي (100 ألف) مختفي قسريا، وأكثر من (130 ألف) معتقل في سجون الأسد منذ عام 2011م.

فهل أصبحت “بس وينن” منتهى ما يبغيه مئات الآلاف من أهالي المفقودين فقط؟ في ظل يأس شديد من بحث محموم عن أحبتهم المفقودين، وتحت وطأة معاناة نفسية واجتماعية واقتصادية عاشوها ويعيشوها كل لحظة منذ فقدانهم للأب، للابن، للزوج، للقريب، للصديق.

 

ليست أرملة، ولا مطلقة.. ليست عزباء، ولا متزوجة!

“لم تعترف أي منظمة أو جمعية إنسانية، عندما كنت أطرق أبوابها بحاجتي المادية الماسة. كانوا يقولون لي، أولادك ليسوا أولاد شهداء” تفتتح ندى (اسم مستعار) حديثها معي وتضحك بسخرية وتقول:”لست مطلقة، ولا أرملة، لست عزباء ولا متزوجة… لا أعلم من أنا”.

كانت “ندى” في العشرين من عمرها عندما اعتقل زوجها في عام 2013 . وحيدة مع طفليها (أنثى وذكر) تواجه ألم اعتقال زوجها ووحدتها. تقول: “لم يرتكب زوجي أي ذنب سوى أنه كان ممرض في أحد مشافي مناطق حلب التي كانت خارجة عن سيطرة السلطة السورية. فقد كان يؤدي واجبه المهني والإنساني عندما قصف المشفى، لتصيبه عدة شظايا في جسمه اضطررنا على أثرها إرساله مع أحد أصدقائنا إلى مشفى في مدينة اللاذقية حيث كان والده ووالدته نازحين، وبقيت أنا أنتظر عودته مع طفلي في المنزل في حلب”.

 وتتابع: “قضى زوجي ليليتين فقط في أحد مشافي اللاذقية قبل أن يقدم أمن النظام ومخابراته على اعتقاله وتحويله إلى فرع الأمن العسكري في دمشق، ثم إلى سجن صيدنايا العسكري، ثم ليختفي أي خبر عنه لاحقا”.

ثم تغادر ندى مع طفليها من سوريا إلى تركيا أواخر 2013 وتقول: “اشتد القصف في حلب، وخشيت الذهاب إلى بيت أهلي زوجي في اللاذقية، بعدما أخبروني بأن النظام سألهم عني أكثر من مرة”.

“سبع سنوات في تركيا، أتصارع فيها مع لقمة العيش” وتجرح الغصة صوت ندى: “عشت أيام بلا رغيف خبز واحد في منزلي، وتنقلت بين أعمال وأشغال كثيرة لأسد جوع طفلي.. فقد أرهقتني الغربة وأرهقني انتظار بصيص أمل عن زوجي”.  وتضيف: ” البارحة وقفت أمام النافذة، خيل إلى بأن زوجي قادم من بعيد، ابتسمت وقلت، يارب”.

سُبحة الاعتقال

اعتقل أخوتها الثلاثة، الأكبر والأوسط والأصغر، وابن أخيها الأكبر، وصديقين لإبن أخيها، وخمسة من أقاربها، إضافة إلى اختفاء شاب من أولاد عمها خلال مجزرة البيضا في بانياس.

هنا نتحدث عن مريم (اسم مستعار) التي ما زالت قادرة على تذكر أسماء شباب وأشخاص أخرين تعرفهم الذين اختفوا أو تعرضوا للاعتقال من قبل أجهزة السلطة السورية الأمنية في مدينة اللاذقية، لولا أنها أجهشت بالبكاء الشديد لأخبرتنا عن أسماء المزيد من المعتقلين.

وتقول مريم: “بداية اعتقل أخي الأكبر مدة عام كامل في بدايات الثورة في سوريا، وحالفه الحظ وخرج من السجن، ثم اعتقل بعده أخي الأوسط مباشرة، والذي لا تزال آثار التعذيب واضحة على جسده حتى هذه اللحظة، بالرغم من بقائه في المعتقل مدة أربعة أشهر فقط”.

 ولا تتوقف “مريم” عن ذكر تفاصيل الاعتقال، فتتابع: “في صيف 2012 تم مداهمة منزلنا في اللاذقية، واعتقل أخي الأصغر (مواليد 1995) بتهمة الإرهاب.. تهمة غيبته خلف الشمس”.

” كان عمر ابن أخي الأصغر (17) عاما عندما اعتقل عام 2012. زارته والدتي مرة واحدة في سجن صيدنايا بعد أكثر من عام على اعتقاله، ثم دفعنا أموالاً طائلة كي نعرف ولو خبر بسيط عنه بعد تلك الزيارة اليتيمة، وصلنا خبر إعدامه ميدانيا”، تحكي “ندى” بشجون وحسرة على ابن اخيها المعتقل.

كبر طفليّ أخيها الأصغر دون أب، وهما لا يعرفان شكل والدهما إلا بالصور، التي حرصت مريم أن يراها الصغار  كل فترة حتى لا ينسيا والديهما.

حمل مضاعف

ذاق عمر (30 عاما)، التعذيب والذل والمهانة في أفرع السلطة السورية ومعتقلاته، فقد اعتقل “عمر” بداية ربيع  2012  نتيجة مشاركته في المظاهرات السلمية، ليخرج بعدها من المعتقل بعد ما يقارب السنة والنصف، لكن واجهه عذاب وشقاء أكبر بسبب اعتقال والده وانقطاع أي خبر مؤكد عنه منذ صيف 2012.

يقول عمر: “وجدت نفسي مسؤول عن أمي وأخواتي البنات بعد غياب (عامود منزلنا)، فقدنا جزءا كبيرا من أموالنا عند البحث عن والدي، وفقدت أنا أي شعور بالأمان في البقاء بسوريا، خاصة بعد تهديدات مخابرات النظام لي بالاعتقال إذا لم أتوقف عن نشاطي المدني في دعم الثورة”.

ويغادر عمر مع أخواته البنات الثلاث العازبات إلى تركيا في نهاية عام 2013، وتبقى والدته مع أخته المتزوجة في منزلها، رافضة المغادرة معهم على أمل أن يطرق زوجها “أبو عمر” الباب عليها ذات يوم.

يقول عمر: “من حالة البحبوحة الاقتصادية في سوريا إلى ضنك العيش. أجاهد في إيجاد عمل يؤمن أدنى متطلبات الحياة الكريمة لي ولأخواتي”.

حبس “عمر” دموعه بشق الأنفس، عندما تحدث عن والده أمامي وأمام أخته الصغرى، سألته بعدها: “لماذا أخفيت دموعك؟” فأجاب: “أخاف على شقيقتي الصغرى من الانكسار والانهيار النفسي، إذا ما شاهدت شخصاً آخر حلّ مكان والدي في المحل الذي كان يعمله فيه”.

ربما المأساة التي تعرض لها “عمر” واعتقال والده جعله عنصراً فعالاً في مكتب “شعاع الأمل” لمساعدة أهالي المفقودين الذي تم تشكليه في ولاية أنطاكيا التركية برعاية اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، بهدف إيصال صوت أهالي المفقودين لكل الجهات الدولية والمحلية للكشف عن مصير أحبتهم.

 وعن هذا يقول عمر: “تلذذ الاعتقال بي واستحكم بوالدي، وكذلك بأكثر من  100 معتقل ومفقود بين أقاربي وأصدقائي وأهل مدينتي الحفة في اللاذقية.. هؤلاء وعشرات الآلاف غيرهم الكشف عن مصيرهم أمانة في أعناقنا”.

أضعف الإيمان  البحث عن مصير المعتقلين

يتفق عمر ومريم وندى أن أضعف ما يمكن أن يقدمه كل المعنيين بملف المعتقلين والمفقودين في سوريا، هو حقهم في معرفة مكان أحبتهم، حقهم في معرفة مصير مفقوديهم.  ويصرون على ألا يصبح ملف المفقودين مجرد أرقام، بل هم أشخاص لديهم عائلات وأولاد سلبت حياتهم.

ويشتد خوفهم الآن أكثر على المفقودين بعد جائحة فيروس كورونا المستجد، فالسلطة السورية كما يجزمون لا ينكر وجود المعتقلين والمفقودين فقط، بل ينكر الوباء ذاته!

 

من جانب نفسي، يقول  الدكتور محمد أبو هلال وهو طبيب سوري متخصص في الطب النفسي: “يعتبر موت أحد الأحبة أشد حادث ضاغط نفسيا يمكن أن يتعرض له الإنسان. مقارنة مع الضغوط الأخرى.  ولكن الاختفاء والفقد لأحد الأحبة دون معرفة المصير، ربما يكون من الحوادث الصادمة، والتي لها تأثيرات كبيرة على نفسية أهالي المفقودين والمختفين”.

يضيف “أبو هلال”: “يمر الشخص الذي يموت أحد أحبته بمراحل من الحداد: أولها الانكار، ثم الغضب، ثم المساومة ومن ثم الاكتئاب فالقبول. وهذا سير طبيعي للأمور يساعد الإنسان على استيعاب الفقد (نتيجة للموت الطبيعي) والخروج منه. ولكن التحدي الأكبر يكون عندما يختفي من نحب قسريا دون أن نعرف مكانه، أو مصيره، وهنا تتأرجح الحالة النفسية بين الخوف من انه مات وبين الرجاء بانه سيعود، وتولد هذه الحالة الاكتئاب، القلق، الشعور باليأس، وانعدام الحيلة والطاقة”.

ويشير إلى أن  معاناة أهالي المفقودين والمغيبين قسريا من اضطرابات نفسية معقدة، وهي قد تؤثر على صحتهم وحالتهم الجسدية، فتتولد لديهم الكثير من الأمراض مثل ارتفاع الضغط، السكري، العلل القلبية.

 

أما المحامية أمل النعسان، مديرة مركز أمل للمناصرة والتعافي في أنطاكيا، وناشطة في قضية المفقودين والمعتقلين تقول: “بالرغم من أن السلطة السورية سلمت لعديد من الأسر السورية شهادات وفاة، لكن لم يتم تسلمهم الجثامين إلى عائلاتهم لدفنهم  بشكل لائق تحفظ فيه كرامتهم الإنسانية. ولذلك لابد من إلزام النظام بإعطاء الأهالي المعلومات عن مصير أحبابهم الذين غيبوا في سجونه دون أي محاكمة عادلة، أو السماح لهم بزياراتهم أو توكيل محامي. وما يزيد تخوف الاهالي الآن انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد في العالم، وبالتالي ازدياد شروط الاعتقال سوء”.

وتضيف: “لابد من الضغط على النظام لإطلاق سراح كافة المعتقلين والمغيبين قسريا، والسماح للمنظمات الدولية بالدخول إلى مراكز الاحتجاز للاطلاع على أوضاع المعتقلين، ومتابعة وضعهم الصحي والقانوني، وهو ما نصت عليه كل القوانين الدولية والأعراف”

وردة الياسين

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *