أخبار

لماذا لم تعد أُمّي تُحب اللحمة بالفرن ؟!

احمد الخليف … عن قصة حقيقة 

يقول الراوي :

اتصل عبود بأمي و أخبرها بأنه سيأتي لزيارتنا قريباً، طبعاً بسبب صعوبة الظروف اللي نحن فيها و قسوة المعيشة اللي فرضها تنظيم داعش على ديرالزور خبرناه إنو ما يجي.

أمّا عبود من أكثر من سنتين ما شفناه، يعني من بدأ دراسة المعهد الموسيقي بدمشق، المهم هو أصر جداً على الجية لهون، و نتيجة لها الشي عطيناه فكرة عن الوضع هون حتى يعرف كيف يتصرف، و حكتلو أمّي إنّها رح تعمل لحمة بالفرن لأنو هو بحبها كثير، مع إنو الأكلة كانت كثير مكلف بالنسبة إلنا بدايةً بالمكونات و بالغاز أيضاً اللي مو متوفر كثير وما نقدر نطبخ بلاه لأن الكهربا مقطوعة من زمن، لكن كلشي بهون أمّام رغبة الأم بإسعاد أولادها على طول.

بكرى رح يوصل عبود؛

طلعت حتى انتظره عند موقف الباصات، و خلال انتظاري خطرت على بالي كثير أسئلة غبية، منها :

يا ترى عبود رح يعرفني بهاللحية و الباكستانية (اللباس الإسلامي اللي كان فارضو التنظيم على عامة الناس) ؟!

يا ترى رح يعرفني إذا شافني ؟!

يعني شوه السؤال الغبي؟ هو صرلو سنتين ونص تقريباً غايب بس، ما رح تتغير ملامحي للدرجة اللي ممكن تخليه ما يعرفني فيها.

أجهل سبب احساسي بأن هالسنتين اللي عشناها تحت سوط التنظيم كانت عمر طويل كثير.

المهم وصل الباص؛

و أنا واقف عم انتظر عبود لينزل، كل الناس نزلت و السائق سكّر باب الباص، وين عبود ؟!

رحت إلى موظف المكتب و سألته:

– في باص ثاني جاي من الشام غير هذا؟

فرد عليّ :

– لاء ليش !؟

خبرتو إني متوقع قدوم أخي بهالباص.

فرد عليّ سائق الباص فجأة :

  • أخوك فنان شي ؟!

-لاء أخي مو فنان بس يدرس موسيقى، ليش ؟

–  شو اسم أخوك ؟

-عبد الله.

صار يقلب بالأوراق شوي و قلي :

  • وقفنا حاجز للتنظيم عند مدخل المدينة، و نزلوه كان حامل معو غيتار و دخان.

رجعت ع البيت و أنا مو عرفان شو بدي أحكي لأمي اللي عم تنتظر عبود و عاملتلو لحمة بالفرن و من مدة طويلة ما أكلها!

فتت ع البيت؛

وقبل ما أتلفظ بأي شّيء سألتني أمي :

  • وين عبود؟

ما عرفت شو بدي قلها، كررت السؤال :

  • وين عبود عم قلك، شبك احكي !

خبرتها اللي صار، وقعت ع الأرض و صارت تقول :

  • يعني ما عاد شوفو ؟ ولا رح ياكل اللحمة بالفرن اللي عملتلو ياها ؟ طيب ليش؟

و انفجرت و صارت تبكي و أنا رجعت ع غرفتي مو عرفان شو بدي أحكي .

ثاني يوم من الصبح لبست ثيابي و طلعت دوّر عليه من مكان لمكان، و ظليت دور عليه تقريباً أسبوعين لكن بدون أيّ نتيجة تُذكر .

كل ما سألت بمحل، يحكولي متل حكي أفرع النظام تماماً، ما نعرف شيء و في حال استجد شيء رح نخبركم .

طبعاً بعد السؤال هون و هون قدرت عن طريق واحد من الأصدقاء إنّي أتعرف على مسؤول بالشرطة الإسلامية يقدر يساعدنا، بس قالي رفيقي بالحرف :

  • “هذا الشخص ابن حلال و يساعد الناس، بس مشكلتو إنو بيقبض” .

طبعاً يقبض يعني بالمصطلح العامي “يرتشي”، الوضع المادي عندنا كان جداً سيء، نتيجة لها الشي اضطرينا إنو نتدين و نبيع البراد بحكم إنو مافي كهربا و حتى نأمن “الرشوة” لها الشخص اللي صار يعتبر ابن حلال بالنسبة لأفراد التنظيم.

التقيت بالمسؤول و خبرنا عن مكان عبود و رحنا إلى هالمكان، طبعاً كان بمدينة تابعة لولاية الرقة “مثل ما سمّاها التنظيم”.

دخلنا لعند الأمير المسؤول بعد ألف كلام و أخذ و رد مع الحرس، طبعاً وقت دخلنا أجهل ليش خطر على بالي الوالي اللي بمسلسل الأطفال علاء الدين و المصباح السحري، يمكن بسبب انو الأمير سمين و أثار الترف مبينة على خدوده الوردية، على عكس بقية الشعب اللي فيك و بسهولة تلتمس آثار الجوع و القهر على وجه العامة و علامات الحرمان و الحسرة.

وعلى سيرة الحرمان، حكاية صغيرة بس و نكفي قصة عبود؛

أذكر مرة صديق خبرني إنو كان عم يحكي مع أختو أم السبع سنوات بالهاتف خلال فترة حصار داعش للمدينة، فاستفسرت منو أختو:

  • أيمت بدك تجي عندنا ونشوفك ؟

~ رح اجي و وجبلك معي لعبة .

فجاوبت أختو بكل براءة :

  • أنا ما بدي لعبة، بدي تفاحة، مشتهية التفاحة كثير …

مثال صغير عن الحرمان بس …

المهم نرجع لحكاية عبود ؛

دخلنا على الأمير و بعد السلام عليكم :

حضرة الأمير المحترم، أخي قصتو هيك هيك هيك، و بدنا نعرف شو الوضع لو سمحتو !

و كيف ممكن نحل الموضوع ويطلع؟

و إذا في مجال نشوفو !

فرد الوالي :

  • و عليكم السلام، بدك أجوبة لك هالأسئلة، تعالوا بعد أسبوع و رح تاخذوه و ينتهي الموضوع بإذن الله، الله معكم.

طبعاً هو كان من المغرب العربي، فيك تكتشف هالشيء ببساطة من لكنته العربية .

رجعت ع البيت لكن قلبي كان قلق و أجهل السبب، خبرت والدتي باللي صار و بقت الأفكار تتخبط براسي حتى الصباح .

في اليوم المتفق عليه، ذهبت مع صديقي حتى نشوف أخي، وصلنا إلى المكان و طلبوا منّا الحرس اللي ع الباب أن ننتظر قليلاً.

بعد قليل؛

طلع عبود وهو مقيّد و لابس بدلة برتقالية اللون، وفي قطعة قماش على عيونه، طبعاً مبين عليه إنو متعذب كثير من طريقة مشيه المتهاوية .

حاولت إنّي اقترب منو، لكن احد الحرس دفعني من صدري للوراء.

حطوه بالسيارة و قالوا : اتبعونا !!

قال صديقي :

  • يمكن رح ياخذوه إلى مكان ثان حتى نكمل إجراءات روتينية .

قلت بنفسي :

“إجراءات روتينية” !؟ هم همج وبربر شو هالإجراءات الروتينية !؟

المهم؛

مشت السيارة و نحن وراهم بسيارتنا، أنا ما عدت أطيق منظر عبود وهو بقفص السيارة من الخلف، القفص كان مثل أقفاص الحيوانات، و في ذاك اليوم كانت الشمس قوية جداً، لدرجة إنو عبود كان يحاول يمنع أشعة الشمس عن وجهو اللي صرلو فترة مو شايفها، منظر يستحيل أن يُمحى من ذاكرتي.

قلت لصديقي :

  • أسرع خلينا نسبقهم، ما عدت أطيق المنظر أكثر.

رد علي :

  • ما أعرف وين متجهين، الواجب إنو نبقى بأثرهم.

طبعاً أنا بقيت متحمل المنظر لأكثر من ساعة ونصف.

وصلنا عند دوّار بجانب مشفى و مسجد كان اسمو “دوّار الطيبة”، أمّا بعد دخول التنظيم صار اسمو “دوار الإعدامات”، وسبب التسمية هو قيام التنظيم بمعظم الإعدامات على هذا الدوار نظراً لموقعه الذي يعتبر بوابة المدينة.

كان يوم الإثنين، و من الشائع هناك، أن يومي الإثنين و الخميس هما أيام الإعدامات، فكان المكان مزدحم بالناس، بدأ الشك يلعب بداخلي و أنا أكذبه :

  • لاء مستحيل يعدموا عبود .

نزلوه من السيارة و اقتادوه لعامود اغتصبت عليه فتوة كثير من الشباب، ثم ربطوه .

أنا متجمد لا أستطيع الحراك ولا استيعاب الموقف، بادر أحدهم بالكلام و هو الوحيد اللي ما كان ملثم، فبدأ بآية من القرآن الكريم ثم قال بالحرف و الكلمات اللي يستحيل إنّي إنساها :

  • “هذا الزنديق الذي يدّعي الإسلام، يحث على نشر اللهو و الغناء اللذان يصدان عن ذكر الله، ولأن كلام الرحمن لا مع كلام الشيطان في قلبٍ واحد، حكمت المحكمة الإسلامية بإعدامه وتعليقه لمدة يومين حتى يكون عبرة لغيره”

أنا أعجز عن استيعاب الموقف و ركبي ما عادت تقوى على حملي، و خلال لحظة قررت إنّي أسرق سلاح منهم و أضربهم، فإمّا أن أموت أنا وهو أو ما يموت أحد، ركضت باتجاه الحرس اللي كانوا مشكلين دائرة حول العمود، لكنهم منعوني و أمسكوني وبطشوني على الأرض، الناس بهاللحظة تتفرج عليّ، و أنا أصرخ فيهم :

  • لك شبكم؟
  • عاجبكم اللي عم يصير؟!
  • وينكم يا مسلمين؟
  • وين الشهامة؟

لكن لا حياة لمن تنادي، كنت أنا مثل الثور اللي بحلبات المصارعة و الناس عم تتفرج علي و أفراد التنظيم يضربوني، بعد شوي وقفوا الضرب، و مسك الشيطان الكبير تبعهم المسدس، و وجهه إلى رأس عبود

ضرب فيه طلقتين

بعدها استقبل الناس بصدره و فتح يديه الإثنتين وصار يرفعهم و هو يكبّر و كان يريد من الناس يكبروا معه، فعلاً بدأ الناس بالتكبير و الصراخ “الله أكبر الله أكبر”.

أمّا أنا حسيت بهذه اللحظة أنّ روحي قشعت من جسدي .

انتهت مراسمهم فحاولت إتّي أخذ جثة أخي لكنهم منعوني، قالوا لي أن الأمير طلب يبقى معلق ليومين حتى يكون عبرة لغيره .

هه حسبنا الله و نعم الوكيل .

رجعت لعند أمّي و أنا ما بعرف شو بدي احكيلها، كنت من فترة عطيتها مسبحة تخبيلي ياها عندها، فسألتها عنها :

  • أمّي وين المسبحة اللي عطيتك ياها من فترة تخبيها عندك ؟

~ موجودة يا ابني، بدك ياها؟ بس حكيلي شو صار بعبود بالأول ؟

  • يعني هي أمانة إلي صح؟ و ايمت ما بدي أخذها ؟

~ أي طبعاً هي حقك، بس ليش تحكي بطريقة غريبة وما جاوبت على سؤالي ؟

– يعني لو اخذت مسبحتي منك ما رح تزعلي؟

~ لاء طبعاً ما رح أزعل، بس جاوبني شو اللي صار معك ؟

– أمّي، الله عطاكي حبة هالمسبحة و الله أخذها منك وكلي أمرك لله.

~ عبود مات؟ ما عاد شوفو؟ لا تكذب، أنتّ واحد كذاب، يالله كلشي إلا عبود يالله …….

بقت تحكي كثير و تدعي، و أنا ما نزلت من عيني ولا دمعة يمكن من هول الموقف، بعد أسبوع حتى قدرت أبكي و استوعبت الأمر .

و لها السبب أمّي ما عادت تحب اللحمة بالفرن …

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *