أخبار

متلازمة الجهاد والإلحاد

تخيلوا لو أن الله أنزل فجأة من السماء كتاباً يقول فيه إنه يسحب كلامه السابق في الكتب السماوية كافة، ويعطينا تعليمات مُحددة ومُحدثة، مغايرة تماما لسابقاتها!! إن لم يكن الأمر مثيرا للإلحاد، فهو بلاشك سيثير الإستعجاب..

هذا تحديدا هو ما يحدث من قِبل معظم رجال الدين المؤثرين إعلاميا ورسميا، ضمن أسلوب إن لم يكن خادشاً للحياء العام، فهو قذرٌ على أقل تقدير؛ إذ يتعامل هؤلاء مع الدين، كأنه عجينة سهلة التشكيل، ويتبارزون فيما بينهم في التلحين والتطبيل والتزمير، للحاكم بأمر الله، ولي أمر المسلمين. وليس الأمر حكرا على رجال الدين المسلمين، فهذه حالهم في كل ملة ودين.

وهذا تحديدا أهم أسباب إنتشار التطرف والإلحاد في دولنا العربية والعالم.. توظيف الخطاب الديني لصالح توجهات مختلفة بإختلاف المصالح والمطامح، ومرتبطة بمؤشرات أسعار النفط والأسهم العالمية. ولعل هذا يوضح أسباب عدم وجود أي تعريف متفقُ عليه لمصطلحات الجهاد، والإرهاب، والإلحاد.

مع مراعاة الإختصار، ودون إخلال بالفائدة، لن أنتقي أياً من التعريفات “المتفق عليها” للمصطلحات الثلاثة، والتي سوف تخرج بنا من دائرة الموضوعية، إلى أفق الإنتقائية المفتوح؛ دون مراعاة الشمولية، ودون الاعتداد بمدى التباين بين أطياف هذه الفئة أو تلك، التي قيل إنها اتفقت على تعريف الجهاد أو الإلحاد أو الإرهاب.

ليس الهدف مهاجمة الجهاد أو النضال، أو الملحدين، ولكن مجرد محاولة الخروج بفكرة أدق عن توظيفات هذا المصطلحات الأساسية، التي تختلف توظيفاتها والفئات التي تطلق عليها بصورة متناقضة، مثيرة للإستغراب.

الجهاد والجهاد المضاد

على سبيل المثال، جاهد أمشاج المرتزقة الأفغان والإيران، ومن جاء سعيا من لبنان، دفاعا عن المراقد المقدسة والنائمين؛ إلى جانب الروس الملحدين، ضد إخوانهم في الدين، العرب والسنة! ومن خلف الأفغان يأتي الأوزبك والشيشان ليجاهدوا أيضا، على الجبهة المقابلة، مع خليفة المسلمين، ضد المسلمين “المرتدين” في دولة الإسلام.

وعلى سبيل المثال، ضمن مُسمياتٍ مختلفة، في العراق حربٌ صفوية أموية، أو شيعية سُنية، كمثيلتها في اليمن، التي يجاهد فيها أهل السودان وجيش باكستان، بحزم وعزم، واسناد جوي أمريكي، ضد من تبقى من المسلمين.

الأمثلة عن الجهاد والجهاد المضاد تفيض بها دولنا العربية و”الإسلامية” من المحيط إلى المحيط، والأمثلة عن التخاذل العربي الإسلامي، وحساباتُ تحت الطاولة وفوقها، واعتبارات المصالح المشتركة تظهر وتغرق في بحر العرب، والخليج “العربي”..  فمع كل الجهاد المذكور أعلاه، مسلمو الإيغور في الصين، والروهينجا البورميّون، والأقلية المسلمة تحت وصاية الكرملين، وغيرهم كثيرون، تقطعت حناجرهم بنداء “وامعتصماه” ولا حياة لمن تنادي. ولا ننسى فلسطينُنا المُحتلة.

بعيد عن دولنا العربية وإرهاب الإسلاميين وجهادهم، في أقصى الغرب المتمدن، جاهدَ “جيشُ الرب” مخالفي أوامره، بتفجيرات عيادات الإجهاض ودورات الألعاب الأوليمبية، وإذا نسينا سريعا الهجمات المختلفة التي طالت مساجد المسلمين ودور عبادة السيخ والهندوس في الغرب، فدعونا لا ننسى الحملات الصليبية والحروب العالمية، وإن كانت قديمة العهد؛ فدماء الضحايا المسلمين، على يد الهندوس المسالمين في جوجارات الهندية، وتلك الدماء في مسجد نيوزيلندا لم تجف بعد.

الإلحاد وإلإلحاد العربي

الإلحاد مرحلة فكرية، وفق أحد تعريفاته المختلفة، أما تصرفات الملاحدة وأفكارهم فهي إنعكاس شخصيتهم وتربيتهم، وفق رأيي الشخصي. هذا يحدونا إلى ملاحظة التفاوت الكبير بين ملاحدة الشرق والغرب، وليس المعنيُ هنا المفكرين والفلاسفة العرب المتهمين بالإلحاد، بل المقصود أولائك الراكبين لموجة الإلحاد دون مقاومة! إذ يفترض بالإلحاد أن يكون خروجاً مطلقاً عن التقليد والإتباع، وهو لا يأتي إلا بعد مخاض فكري وشعوري قاس يعرفه كل خاض فيه، ذلك لأن الإلحاد هو في جوهره رفضٌ للمسلّمات وإعمالٌ للشك ثم للعقل في كل شيء.

مشكلة الإلحاد العربي، في ظاهره المُجمل، أنه ليس أصلياً.. أفكارٌ سطحية متوارثة، تنتشر بسهولة ويسر، لأنه ليس أيسر على الإنسان من الإنزلاق في مهاوي الفكر الهابط والإنحلال؛ ليس القصد إبراز الإلحاد على أنه دعوة مفتوحة للإنحلال والخروج عن أساسيات الحفاظ على مجتمع محافظ -كما يقول أعداء الإلحاد- ولكن المراد هو تسليط الضوء على مشكلة الملاحدة العرب وتوجهاتهم التي تخلق تصورا مغلوطا عن الإلحاد والملحدين في أذهان الكثيرين.

 لو كان للملحدين كتاب مقدس، لوجدوا فيه أنه ليس مطلوبا منهم مهاجمة أو احتقار مقدسات  وأفكار أي أحد. عوضاً عن ذلك، أرخت الخيبة العربية بسدولها على كثير من ملاحدة العرب، فأصبحوا تابعين لأرداً الأفكار الإلحادية الغربية وأسوأها. واختلطت تلك الأفكار لديهم برواسب السلوكيات العربية “الراقية” لتخرج لنا بصورة شاذة عن الإلحاد تبعد كثير عن جوهر الإلحاد الفكري.

مع موجات التحرر، التي تعقًب أي حدث كبير، كحرب أو ثورة، تأتي حريةُ ناتجة عن الإنفلات، لا عن الوعي، لتحمل معها أفواج المتطرفين من كل حدب وصوب، وتُظهر أسوأ مافي المجتمعات وأفضل مافيها.. لعل هذا يُفسر ترافق التطرف الديني والإلحاد في حالات كثيرة، ويفسر العداء الظاهر بين الملحدين العرب والمتطرفين، الكل يتطرف، هذا يتطرف في إلحاده وازدراءه لمقدسات المتطرفين، والمتطرفين يتخذون من ذلك ذريعة لمهاجمة الملحدين. وليس مطلوبا من الطرفين شيء من ذلك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

لعل المشكلة الرئيسية بين الملحدين والمتطرفين (فكرياً) هي مشكلة وعي وفكر، تنحصر في جزئها الأكبر ضمن مناقشات سقيمة لقشور الدين ومغالاطات التفاسير المأجورة للنصوص، وكذلك في مهاجمة تصرفات الملحدين وسلوكياتهم، بينما يغفل الكثيرون من الطرفين عن كثير من المناظرات الفكرية بين ملحدين ومؤمنين، وآخرين تنقلوا ما بين الإلحاد والإيمان.. مناظرات فكرية رصينة بُنيت على أسس علمية وحوارت راقية، ويغفل الكثيرون أيضا عن اسهامات علماءٌ على ذمة الإلحاد في الإكتشافات العلمية النافعة للبشرية، تماما كما فعل العلماء اليهود والمسيحيون والمسلمون في مختلف المجالات.

 

ياسر توفيق – كاتب مصري

 

         

نود التنويه أن المواد المنشورة في قسم مواد الرأي تعبر عن رأي كاتبها أو المصدر التي أخذت منه ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *