أخبار

عن الخسارات في أحراش الجنوب السوري

فيما يزداد اهتمام العالم بتناول مشاكل التغير المناخي وتتصدر الأجندات السياسية، تبدو سوريا بعيدة جداً عن الموضوع، فالخسارات البشرية والنفسية التي أصابت المواطن السوري تفرض أولويات من نوع مختلف، لكن ماذا عن الخسارة في رأس المال الطبيعي، ومن المسؤول؟.

 

تعجّ المنطقة الجنوبية في سوريا بالأحراشِ المثمرة وغير المثمرة، ويتسم المناخُ فيها بالمعتدل فيما تتميز التربةُ بالخصوبة، إلا أن وجود الأحراج بدأ يتناقض مع بدء مسلسلُ الحصارِ المناطقيّ الذي فرضه جيشُ النظام على المناطق التي تضم مجموعاتٍ مناهضةً لحكم الأسد.

 

المعركة مع الأحراش في الجنوب ليست جديدة، ويعود تاريخها إلى أعوام سبقت انطلاق الثورة السورية في العام 2011، فمحافظة القنيطرة إحدى أجزاء الجولان السوري المحتل، مشهورة بأحراشها وتتوزع على طول الشريط الفاصل مع الكيان الصهيوني، وأبرزها حرش جباتا الخشب وحرش بئر عجم وبريقة ومزارع حضر وحرفا، وكان أهل القرى المحيطة بهذه الأحراش مدافعين أشداء عنها، حيث يقول الناشط السياسي ديب قات: «لطالما دافع أبناء عين زيوان، ومومسية، وعين عيشه، وجويزة غربا، والصرمان، ورويحينه، وبئر عجم، وبريقة، عن أحراش القنيطرة ، وأثمر هذا النضال في 2011 قراراً من مجلس الوزراء السوري، يصنف أحراش القنيطرة مملوكة للناس دون أن يكون لها حق التصرف بالشجر، خصوصاً أن كثيراً من أخطبوطات الظل كانت تطمح لتحويل منطقة الأحراش إلى منطقة سياحية وابتلاع الأحراش».

صورة محمية جباتا الخشب

 

ويضيف ” قات ” خلال متابعتنا لمعاملات انتزاع القرار أرفقنا ما يؤكدُ بأن أبناءَ القرى السابقِ ذكرُها هم الذين حموا الحرش من التعديات ، ورغم ذلك فالخرائط تدل أن مناطق التماس مع القرى المجاورة خارج الحرش أكلت أحراشا ” كانت أكثرَ اتساعا ” مما كانت عليه الآن – قبل قصها – . والمؤسّي – بوصفه –  أن رئيسَ لجنةٍ من أربع جهات حكومية حينها قال لنا ” خرجكون لو حرقتوهن متل ماعملوا غيركم كانت الارض الكم.. ” يحتوي الحرش على أشجار البلوط والسنديان والبطم والخوخ البري والنجاص البري بشكل رئيسي إضافةً إلى نباتاتٍ عطرية وطبية متنوعة.

الحرش الوحيد المنظم في الجولان هو حرش جباتا الخشب، وهو حرش كثيفٌ تمت المحافظةُ عليه نسبياً لعدم خروج أهل المنطقة منها، وكانت عمليات الاقتطاع تتم بشكل منظم وضمن لجنة من المختصين، فيما اندثرت عن بكرة أبيها غابة من اللوز البري بين بريقة وبئر عجم من الشرق.

أما عن صاحب المصلحة الحقيقة في إفناء الأحراش فيقول قات: «”إسرائيل” لها مصلحة فهي تريد تأمينَ حدودِها إضافة إلى تجار الحروب، وإذا كان مفهوما أن تقوم الناس بالتحطيب للتدفئة فما ليس بمفهومٍ هو ذلك القطع الجائر الذي جرى في المناطق المحررة للأحراش، وبرعاية بعضِ الفصائل المتهمةِ بالعمالة لإسرائيل والتي تسلقت على الثورة بشكل غير مفهوم، وسيبقى التغاضي عن تلك الجريمة إحدى الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها ثوارُ الفصائل، وتكمن مصلحة “إسرائيل” في إبقاء المجال مفتوحا أمامها مع أنها تحافظ على قسم هام كمحمية ضمن مناطق احتلالها».

 

صورة أحراش بيرعجم

تسبب اقتطاعُ هذه الأحراش في عوامل ضارة كثيرة الأمر الذي يكشفه  أبو حفص السعيد مسؤولُ التنسيق الطبي بين المشافي الميدانية المنتشرة في محافظتي القنيطرة وريف درعا أثناء سنوات سيطرة الثوار على المنطقة، حيث يقول لـــــ أنا إنسان: «أدى القطع الجائر للمناطق الحراجية إلى الانتشار الكبير للأفاعي والعقارب والحشرات السامة، والتي استهدفت بيوتَ المدنيين وخيام النازحين بشكل مباشر، وتسببت بالكثير من المشاكل الصحية والأمراض الدخيلة ، أهمها انتشار اللاشمانيا، وقد سجلتُ شخصياً إصاباتٍ شهرية بمركز بريقة الصحي خلال صيف 2017 فقط بما يزيد عن مائتي إصابةٍ جلّها من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى لدغات الأفاعي والعقارب السامة والتي وصلت معدلاتها خلال نفس الفترة إلى تسع إصابات أسبوعيا».

أما من ناحيةٍ عسكرية فيشير السعيد إلى أن «انحسارُ الأشجار وزوال الغابات إلى الانكشاف على العدو بشكل كامل حيث تسبب طيرانُ الاستطلاع بتدمير عدد من الآليات الثقيلة التي كانت معدةً للدفاع عن المدنيين وحمايتهم والكثير من المواد الطبية التي كان يتم إخفاؤها بين هذه الأحراش خوفاً من قصف النظام لها»، ويعزي السعيد قطعَ تلك الأحراش «إلى حاجة المدنيين والسكان والنازحيين للتدفئة بالأخشاب وذلك لارتفاعِ أسعارِ الوقود أو انعدامها نسبياً نتيجة سياسةِ الحصار التي كانت تُمارَس على المنطقة خلال تلك الفترة».

 

صورة شجرة اللزاب

 

 

في الشمال السوري التقينا أبو الوليد من أبناء القلمون الغربي الذي قال في حديث لموقع أنا إنسان: «70% من الأشجار الحراجية في جبال القلمون تم قطعها، حيث شمل القطع العشوائي أشجار البطم لجودة حطبها، وأشجار اللوز البري المنتشر في جبال حسياء والبريج اللتان تتبعان لمحافظة حمص، ناهيك عن أشجار الزعرور والقيقب»، أما أبرز الخسارات في الأشجار فهي برأيه شجر اللزاب التي «تعيش في المناطق الباردة كجبال القلمون، وهي من فصيلة السرويات إلا أنها تتميز بطول العمر إذ من الممكن أن يصل عمر الشجرة إلى ألف عام، وتمتاز بفَيئها الباردِ الذي يتسع لعدد كبير من المتنزهين والسواح، ومنتشرة ضمن أحراش القلمون الغربي وتحديداً جرود وجبال فليطة ورأس المعرة والجبة وقارة والجراجير»، أما أبرز نقطة في وجودها فهي بحسب أبو الوليد إن «إنباتها يتم عن طريق طائر الكيخن الذي يتغذى على بذورها ويرميها بعد تفاعلها داخل جسمه مع البراز كي تنمو، ويمكن حفظ الطعام بين أغصانها لمدة طويلة لشدة برودتها».

يُحَمّل أبو الوليد المتسببين بغلاء مواد المحروقات، ومنعِ دخولِها إلى المناطقِ التي كانت خارجة عن سيطرة النظام مسؤولية هذه الجريمة بحق الطبيعة، كما كان لتجار الخشب في المناطق القريبة من الحدود اللبنانية دور كبير في تشجيع بعض الأهالي على قطع الأشجار وبيعِها، في الوقت الذي اضطر فيه المدنيون المحاصرون لقطع الأشجار من أجل التدفئةِ في الشتاء، والطهي في الوقت الذي كان فيه الغاز مفقودًا من المنطقة لسنوات متتالية.

 

تنتشر الأحراشُ في ريفِ دمشق الغربي أيضا بكثافة حيث تسود أشجارُ الزيتون في المناطق التي تفصل بين مدينتي داريا والمعضمية وتسمى منطقة الشياحات، إضافةً لمنطقة الفصول الأربعة التابعة لأراضي صحنايا، وجل هذه المزارع تم القضاء عليها بنسبة 90% حيث يتّهم أهالي هذه المناطق الميليشياتِ التابعةَ لنظام الأسد، إذ لطالما كانت هذه الأحراش مُنطلقاً لعمليات النظام وحلفائه أثناء محاولات اقتحام مناطق داريا والمعضمية، ومن ثم خان الشيح وأحراش شبعا وبيت جن وبيت سابر وكل هذه المناطق تضررت بشكل كبير من عمليات قطع الأشجار إذ بلغت نسبتها حوالي 50%، وذلك بحسب أبي غازي الرجل السبعيني من مدينة داريا، والذي يحاول إلى اليوم إنعاشَ مزرعة العنب وأرض الزيتون مجدداً، إلا أن المجرم -بحسب وصفه-  كان محترفاً في قطعه، وإحراق معظمها ويقول بحرقة «قطعوها يا ابني وقطعوا روحي معها».

 

صورة تل الحارة قبل سيطرة النظام عليه

كانت التلال في مناطق ريف درعا من أبرز المناطق الحراجية، وكانت مقراً تتنازع الفصائل وقوات النظام السيطرة عليها، وكان أكثرها كثافةً حرش تل الحارة الذي كان تحت الوصاية الروسية والذي حرره الثوارُ بعد معاركَ عنيفةٍ استمرت لأيام عديدة في عام 2014، إضافة لحرش تل المحص قرب بلدة نمر وحرش تل الجابية قرب نوى وحرش بلدة تسيل وحرش بلدة عين ذكر التي كانت تحت سيطرة تنظيمات داعش لأكثر من ثلاث سنوات، وكانت العامل الأكبر الذي حال بينهم وبين سيطرة الثوار عليها، إذ كان يعتبر بمثابة الخط الدفاعي الأول لهم حيث كانوا ينشرون الألغامَ بين الأشجار مما تُسبب بخسائرَ كبيرةٍ للمجموعات المقتحمة لهذه المناطق إضافةً لحرش تل حمد بالقرب من الشيخ مسكين.

يقول محمد الرائد العامل في تنسيق عمل المنظمات الإنسانية في ريف درعا معلّقاً على هذا الأمر: «لقد تم القضاءُ بالكامل على حرش تل الحارة عن طريق التحطيب وقصف النظام المستمر خلال مدة خروج التل عن سيطرته، أما باقي الأحراش فقد تضررت بشكل جزئي بفعل التحطيب، وكان تجار الحطب هم أبرزُ المستفيدين من هذا القطع، حيث انعكس قطع الأشجار بشكل سلبي على معدلات هطول الأمطار في المنطقة، غير ذلك فإن قطع الأشجار في الأحراش أدى لكشف تحركات الثوار سابقاً أمام طائرات الاستطلاع ، ويتخوف الرائد من عدم وجود أي نية لإعادة تشجير هذه الأحراش، سوى بعض الحملات التطوعية، ومنها حملة لزرع 5000 غرسة حراجية في تل الحارة، إلا إن هذه الحملة لاتكاد تغطي إلا جزء بسيط من مساحة التل الصالحة لزراعة الأشجار».

 

صورة تل الحارة بعد  سيطرة النظام

 

 

أمل أبو فياض

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *