أخبار

“ممنوع من المغادرة” جملة تنهي أحلام آلاف من السوريين

نور ابراهيم

عند صعودك أيا من وسائل النقل في دمشق ستلاحظ خلوها من الشبان، معظم الراكبين هم من النساء وفي حال وجود الرجال فإنك ستجد فقط من هم في سن الخامسة والأربعين وما فوق أو شبانا بعمر الثمانية عشر عاما أو اقل.

طوال سنوات الحرب الثمانية لوحظ انخفاض عدد الشباب من الثمانية عشر وحتى الخامسة والأربعين من شوارع دمشق والشوارع السورية عامة لأسباب كثيرة تبدأ بالموت والاعتقال التعسفي والهجرة وتنتهي بالذهاب لتأدية الخدمة الإلزامية أو الهروب منها.

كثيرون اختاروا الحياة بدلا من الذهاب لخدمة العلم، العلم الذي فرق الكثير من السوريين دون أن يوحدهم، “كيف يكون الانتماء لبلد يتفنن كل يوم في تعذيبنا كيف يكون الذهاب للموت خيارا إن كنت لا تعلم إن كنت ستعود حيا أم ميتا وهذا أحلى الخيارات إن لم تعد مصابا إصابة ستجعلك تتمنى الموت ألف مرة كل يوم” يقول كنان (اسم مستعار) وله من العمر ستة وعشرون عاما والذي رفض الالتحاق بخدمة الجيش السوري وآثر الحياة متخفيا على ذلك.

يعيش كنان في مدينة جرمانا التي لم يغادرها منذ تخرجه من كلية العلوم قبل ثلاث سنوات حين انتهى تأجيله الدراسي، يتحرك مشيا على قدميه دون أن يلجأ إلى استخدام أية وسيلة مواصلات رغم عدم وجود حواجز عسكرية داخل المدينة إلا أنّ الحواجز الطيارة شكلت مصدر رعب له طوال السنوات الثلاث الماضية.

يعمل كنان في محل لبيع الألبسة الرجالية براتب لا يتجاوز الأربعين ألف ليرة شهريا (أقل من 100$) فهو لا يستطيع مزاولة العمل بشهادته الجامعية، حيث لا يمكنه التقدم لوظائف الدولة بسبب وضعه كما أن المؤسسات الخاصة ترفض توظيفه، “أعيش في سجن كبير لا أستطيع التحرك خطوة خارج حدود جرمانا، الحواجز على مداخل المدينة وخارجها حولتها لسجن كبير، رؤية أي من الجنود الواقفين عليها تسبب الرعب لي”.

التفييش هو الهاجس الأكبر لكنان، اللحظة التي يمسك فيها العسكري بطاقته الشخصية ويدخل بياناته إلى الحاسب تعني النهاية، ستخرج على شاشة الحاسب عبارة “مطلوب إلى الخدمة الإلزامية” سيتم اعتقاله فورا وإرساله إلى الشرطة العسكرية في القابون وإبقاءه فترة من الزمن هناك ليتم سوقه بعدها إلى الدريج ومن هناك على خطوط الاشتباك.

ليس هذا حال كنان فقط، هناك آلاف من الشباب مثله في كل المناطق السورية، لكن بعض القرارات التي صدرت مؤخرا كمرسوم العفو الذي صدر في تشرين الأول الماضي والذي شمل “كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي” شرط أن يسلموا أنفسهم خلال مدة محددة، جعلت الكثيرين منهم يفكرون بالالتحاق بالخدمة بعد تسوية أوضاعهم لوضع حد لكل هذه المأساة.

بالعودة إلى شوارع دمشق التي خلت تقريبا من وجود الشباب، فقد ارتبط الأمر مؤخرا بدعوات الاحتياط ولوائح المطلوبين للخدمة الاحتياطية الني صدرت في الأيام القليلة الماضية، إذ تداولت العديد من صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي أخبارا حولها دون وجود أية أرقام أو تصريحات رسمية توضح الامر.

أرقام كثيرة تم تداولها 90 ألف مطلوب، مئة ألف مطلوب دون أن يستطيع أحد التأكد من الرقم سوى موظفي السجلات العسكرية، البعض يقول أن قرابة مليون ونصف شاب سوري على لوائح الاحتياط أو يخدمون سابقا.

هذه الأرقام المخيفة رغم عدم التأكد منها إلا أنه في حال صحتها فإنها تنذر بالكارثة، ستكون هناك آلاف العائلات السورية المهددة بغياب معيلها أو فقدان أحد أبنائها أو اضطراره للهرب.

محمد 39 عاما يعمل سائق تاكسي تم طلبه الأسبوع الماضي للخدمة الاحتياطية، لم تشفع له عملية القلب المفتوح التي أجراها قبل أسبوعين ولا مرض زوجته التي تخضع لعلاج كيميائي بعد إصابتها بسرطان الثدي، الحكومة التي تعلم بكل شاردة وواردة تحدث في هذا البلد لم تسمع بكاء طفلته البالغة خمس سنوات التي انفجرت بالبكاء لمجرد فكرة ذهاب والدها بعيدا عنها وهي التي لا تستطيع النوم إلا بقربه، يقول محمد: “لا أعلم ماذا سأفعل، إن ذهبت لن أكون قادرا على إعالة أسرتي، فالراتب الذي سيعطونني إياها 39 ألف ليرة سورية لن يكفيني هناك ولن يكفي عائلتي، وغن لم اذهب سأضطر للاختباء ولن أتمكن من العمل على سيارتي، أمامي خيارين أحلاهما مر”.

من جانب آخر، أثارت قوائم الاحتياط الجديدة ردود فعل غاضبة حتى بين الموالين بسبب تضمنها لأسماء أشخاص متوفين، ففي منطقة مصياف تم تبليغ أحد الأهالي بورود اسم أحد أبنائها في القوائم وحين سألت الدورية المكلفة بالتبليغ الوالد عن مكان ولده، قام بإرشادهم إلى مكان المقبرة “اذهبوا لتبليغه هناك إن وجدتموه”.

عائلة أخرى في ريف المدينة تم وصول تبليغ لولدها الذي قتل أثناء تأديته للخدمة العسكرية قبل عامين، ولم تشفع له شهادته من طلبه للخدمة الاحتياطية.

وكانت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة قد أعلنت الخميس 31 كانون الثاني 2019عن تسريح من تجاوز عمره 42 عاما من الخدمة الاحتياطية عدا الأطباء البشريين بحسب وكالة الانباء الرسمية سانا.

لكن دعوات الاحتياط الجديدة التي صدرت مؤخرا شملت مواليد السبعينات أيضا، سليم 44 عاما يعمل موظفا في إحدى شركات القطاع الخاص تم تبليغه للالتحاق بالخدمة الاحتياطية.

قوائم الاحتياط تم إصدارها دون الإعلان عنها تفاجئ بعض المطلوبين بوجود أسمائهم بالصدفة، الصدفة التي ستغير حياة مهران أحد السائقين العاملين على خط بيروت دمشق فعند وصوله إلى الحدود السورية أبلغه موظف الهجرة والجوازات بأنه ممنوع من المغادرة، “كيف ذلك لقد كنت في بيروت قبل يومين وعدت من هنا، كما أنني أملك إذن سفر من شعبة التجنيد ولا يزال صالحا إلى الآن” يخبره الموظف الذي يعرفه بشكل شخصي بأن قوائم جديدة صدرت في وقت متأخر وبأن عليه مراجعة السجلات العسكرية.

الجيد في الأمر أنه قبل عام تقريبا تم إلغاء قرار سوق المطلوبين للاحتياط من الحدود السورية اللبنانية، مكتفين بتبليغهم بمراجعة السجلات العسكرية فقط.

العديد من الشبان تفاجئوا كمهران عند وصولهم إلى الحدود ليعودوا أدراجهم إلى العاصمة دمشق وتتعطل بذلك أعمالهم كما ستتعطل حياتهم.

أحدهم يدعى كريم كان لديه مقابلة في السفارة الكندية للحصول على الفيزا، تبخر حلمه بالذهاب إلى كندا كما كل أحلامه “ممنوع من المغادرة” عبارة واحدة كانت كفيلة بالقضاء على كل أحلامه.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *