أخبار

ارتفاع في عدد حالات الانتحار في الساحل السوري

حيدر محمد – اللاذقية – خاص أنا إنسان 

 

لم يخطر في بال أحمد، الشاب المهندس المتزوج حديثاً، حين خروجه مساء إلى شرفة منزله الواقع في حي الكراجات في مدينة اللاذقية الساحلية لتدخين سيجارة أنه سيشهد حالة انتحار أمام عينيه في المنزل المقابل لمنزله، تُقدم فيها صبية في أولى سنوات حياتها الجامعية على إطلاق النار من مسدس أبيها الحربي فتردي نفسها قتيلةً مضرجة بدمائها.

كان الشاب يعرف الصبية المنتحرة، فهي أولاً جارته التي عاش معها ومع أبناء الحي طفولة في شبه حديقة قريبة، نجح قبلها في الشهادة الثانوية، كما تخرج قبلها من الجامعة بحكم أنه يكبرها بالعمر بعدة سنوات، كان يلاحظ عليها أنها ترتدي ملابساً وزينة جديدة بشكل دائم، وبالمقارنة مع وضع والدها كضابط عسكري فإن الأمر كان يثير الريبة.

انتحار الصبية فتح مزراب الإشاعات على مصراعيه في المدينة الصغيرة، كنت إحدى الإشاعات تتحدث أن الفتاة (مواليد 1996) حامل في شهرها الثالث وقد اكتشف أهلها الأمر وطالبوها بمعرفة اسم الفاعل فأنكرت، وقامت بإطلاق النار على نفسها.  قبل حوالي العام أيضاً شهدت المدينة انتحار صبية بعمر 14 عاماً (مواليد 2003) من منطقة الصليبة (أغلب سكانها سنة) في اللاذقية عبر شنق نفسها في غرفتها باستخدام حبل على خلفية ما قيل إنه مقتل خطيبها في جبهات الغوطة الشرقية.

 

حالات متعددة تكاد تصبح “عادية”:

ليست حال هذه الصبية الوحيدة التي شهدها المجتمع السوري انتحاراً، وليس فقط المجتمع الساحلي من يشهد هذه الحالات، فالحرب استطاعت كسر حاجز الخوف من الموت لتتحول الحياة إلى درجة ثانية أو ثالثة في سلم القيم الاجتماعية والإنسانية، في الحرب عادة ينقلب هذا السلّم وتتلخبط القيم وتتداخل عناصر كثيرة في إدارته، يكون المجتمع والفضيحة الاجتماعية والخوف منهما عاملاً أساسياً في قرار الفرد التخلص من حياته، حيث يبهت دور العامل الديني (الإسلامي أو غيره) في بناء جدار حماية للإنسان من رغبته في الانتحار.

مدينة طرطوس سجلت أربع حالات انتحار خلال شهر حزيران حيث أقدم طالب شهادة ثانوية على الانتحار مستخدماً مسدس والده الحربي، في حين حاول شاب آخر في مدينة طرطوس نفسها الانتحار مستخدماً مسدساً حربياً هو الآخر، إلا أن محاولته باءت بالفشل، في مدينة حماة أيضاً نقلت الأخبار حالة مماثلة أقدمت فيها صبية على محاولة الانتحار دون نجاح، في حلب أقدم رجل يبلغ من العمر 48 عاماً على شنق نفسه في غرفته.

كل الأشخاص المنتحرين ذكوراً وإناثاً هم أشخاص فاشلون يفتقدون الرعاية الاجتماعية من محيطهم أو مهملين من قبل الأهل والمجتمع بنفس الوقت، وتشكل ضغوط الحياة بالنسبة للأجيال الشابة (حتى 25 عاماً) ومنها ضغوط الدراسة عاملاً أساسياً في رغبتهم تلك، في حين تحتل ضغوط الحياة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية السيئة وصعوبة تأمين الغذاء والدواء المرتبة الأولى بالنسبة للمتزوجين ومن هم أكبر عمراً،  يضيف بعض المهتمين إشارة قد تكون لعبت دوراً في التقليل من رهبة الانتحار في المجتمع السوري واعتباره أمراً عادياً، وهي تأثرهم الشديد بانتحار شخصيات تلفزيونية في عدة مسلسلات سورية عرضت في الأعوام السابقة.

شهدت اللاذقية في الأيام القليلة الماضية حالة انتحار على خلفية خيانة زوجية لم يلتقطها المجتمع الأزرق بسبب تكتم أطرافها عن القصة، الإشاعات الشعبية تكفلت بتركيب الحادثة على أن زوجة لديها طفلين ضبطت زوجها مع سيدة أخرى لها قرابة معها (قيل إنها أختها)، فما كان من الزوج إلا أن أطلق النار على نفسه بعد أن أرسل لزوجته رسالة على الموبايل يطلب منها تجاهل ما سيحدثها به الناس ويخبرها فيها أنه يحبها.

وفي حين أن نسبة الانتحار الكلية في سوريا تعتبر ضعيفة جداً حتى في سنوات الحرب الثمانية السابقة مقارنة بدول أخرى بالعالم العربي أو العالمي مثل الولايات المتحدة التي شهد عام 2016 وحده فيها 45 ألف حالة انتحار شملت مختلف فئات السكان الاجتماعية، ولم تكن متعلقة بمستوى الدخل، فإن ما يلاحظ هو ارتفاعها المضطرد في سوريا خلال السنوات السابقة من حالة أو اثنتين في العام إلى قرابة العشرين حالة سنوياً، وفي غياب إحصاءات رسمية يرجح أن يكون العدد مضاعفاً.

قلة الإيمان تسبب الانتحار وقلة المطر!

تعليقات كثيرة طالت انتحار الشابتين السابق ذكرهما (لم نذكر اسمهما احتراماً لذكراهما ولعائلتهما) تراوحت بين الرفض المطلق للفكرة، وبين التشفي بهما ـ إلى جهنم وبئس المصير كما قال أحدهم ـ لأنهما أقدمتا على الانتحار وهما شابتان جميلتان لديهما مستقبل واعد أمامهما بغض النظر عن الأسباب المؤدية للتفكير بالموت، متهمين الأهل بقلة الاهتمام بأبنائهم، بعض المعلقين رفض الترحم عليهما، في حين أن آخرين أرجعوا الانتحار إلى “قلة الإيمان”، الذي يتسبب بنفس الوقت، بقلة نزول المطر أيضاً.

كانت مناسبة انتحار الصبية الأخيرة (علوية) مناسبة لتبادل الشتائم الطائفية أيضاً بين العلويين والسنة، حيث اتهم بعض الأفراد من السنة العلويين “بقلة الإيمان”، في الحالة الثانية (الصبية سّنية) عُكس الاتهام ليطال السنة. أحد المواقع الإلكترونية التي تقدم نفسها على أنها مرصد صحفي نقلت خبر انتحار الفتاة الأولى على أنه “احتجاج على سياسة النظام”.

انتشار السلاح أحد الأسباب لسهولة الانتحار:

يساعد وجود أدوات قتالية مثل المسدسات والأدوية القاتلة أمام المراهقين بالدرجة الأولى في تنفيذ رغباتهم بالانتحار، في الحالات السابقة في اللاذقية وطرطوس وبانياس كان توفر المسدس الحربي ركناً أساسياً في محاولة الانتحار، بالطبع، أتاحت الحرب والمشاركة الكثيفة فيها في هذه المناطق بتوفر السلاح في البيوت، في العام الماضي أقدم رجل في شارع الجمهورية باللاذقية على تفجير قنبلة في بيته مما أدى إلى مصرعه وزوجته وجرح آخرين.

توفر السلاح الناري لا يمكن ضبطه في ظل الظروف الحالية للبلاد، ويأتي إهمال الأهل لإخفاء أو تقييد الوصول إلى السلاح أمراً مساعداً في ارتكاب جريمة الانتحار، أما استخدام السلاح فإن طفلاً في الثالثة من عمره أصبح يعرف استخدامه نظراً لانتشار كثيف لطرق الوصول إلى تعلم استخدامه أو حتى تعليمه من طرف الأهل سواء من باب الحماية أو التباهي، وهذه الأخيرة كثيرة في مجتمعات الفقر بغياب وسائل الترفيه الحقيقة.

في الساحل السوري، قد تكون حالات الطلب على الاحتياط أو الجيش في حالات نادرة أحد عوامل التفكير بالانتحار، وبحكم أن هذه الحالة مرتبطة بشباب في مطلع العمر يكون التفكير بالهجرة هو الأنسب والأكثر عقلانية، لم تسجل أية حالة انتحار لهذا السبب عند الذكور، في مناطق أخرى من البلاد أيضاً لم تسجل حالات مشابهة سواء لجهة الارتباط مع فصائل مسلحة بالإجبار أو بالاختيار.

تجارب عالمية في محاربة التفكير بالانتحار:

ليست سوريا البلاد الأول الذي تحدث فيه حالات انتحار بسبب الحرب الدائرة فيه، فقد شهدت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ارتفاعاً جنونياً فيها، منها مدينة بودابست عاصمة المجر التي كادت تشهد حالات انتحار جماعية بعد الحرب العالمية الأولى، علاج هذا التوجه كان بالقيام بحملات توعية كثيفة، لكن التجربة الأفضل كانت افتتاح ناد للابتسامات، التي تعتبر وفق خبراء ذلك الوقت، محارباً شديداً للتفكير بالانتحار، نجحت تلك التجربة بالتقليل كثيراً من حالات الانتحار، بودابست اليوم يطلق عليها اسم مدينة الابتسامات.

هل نحتاج في سوريا للتفكير بإنشاء ناد مثل هذا؟ ليكن.

 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *