أخبار

النساء والحداد طقوس يفرضها المجتمع

 

لم تخرج أم محمد 65 عاما منذ ثلاثة أعوام إلا لاستلام راتبها التقاعدي أو لتقديم واجب العزاء لأحد أقاربها أو أصدقائها، ولم تخلع السواد من ملابسها منذ وفاة زوجها عام 2015 رغم كل محاولات أبنائها وأخواتها لتغيير هذا الحال.

تفشل كل محاولات أبنائها لإقناعها بأن الحياة مستمرة وبأن كل ذلك لن يعيد لهم والدهم المتوفي.

“لا أستطيع ذلك” هكذا ترد أم محمد على كل محاولة لإقناعها بزيارة أحدهم أو حتى ارتداء اللون الرمادي.

هي واحدة من الكثيرات من السوريات اللواتي يقبعن تحت تقاليد تجعل للحزن والحداد طقوسا لا بد منها، طقوس تزيد من وطأة الحزن وتجعل من تجاوز الموت أمرا صعبا.

في حين أن الرجال ينتهي الحزن لديهم بمجرد انتهاء العزاء، يعودون لممارسة حياتهم الطبيعية يخرجون لزيارة الأصدقاء وللسهر ربما “فالحزن في القلب” الحزن الذي لا يكفي في قلوب النساء فقط بل عليهن إظهار كل ما أوتين من مظاهر الحداد.

توفي والد هبة 30 عاما قبل سنة ونصف تقريبا ارتدت خلالها اللون الأسود ولا شيء غيره إلا أن لهذا اللون تأثيرا خانقا لمن ترتديه فقررت هبة إدخال اللون الأبيض إلى ملابسها فالأبيض أيضا لون محايد بل لون الحداد في بعض المدن، حين خرجت للمرة الأولى إلى عملها مرتدية بنطالها الأبيض التقتها عمتها صدفة بنظرة ملؤها الصدمة لتخبرها صراحة “ما لحقتي تشلحي الأسود”.

تقول هبة “لا يكفينا الحزن الذي يملأ قلوبنا حتى يأتي الآخرون ليعلمونا كيف نحزن! هل ارتدائي بنطالا أبيضا يعني بأنني نسيت والدي بالطبع لا الجميع يجعل من الخروج من الحزن أمرا معقدا”

حين كنت طفلة أذكر جدتي التي لم تخرج من منزلها عامين كاملين لأي سبب من الأسباب بعد وفاة أحد اخوالي في حادث سير كانت صارمة للغاية في كل ما يخص التقاليد حتى أنها منعت خالاتي من ارتداء أي لون مغاير للأسود طيلة ثلاثة أعوام فالفقيد شاب والحزن ينبغي أن يأخذ حقه.

كانت تقول لهن بأن الناس ستأكل وجهها إن سمحت لإحداهن بارتداء لون مختلف لأن هذا بنظر الآخرين تجاوز للحزن والحداد “سيقولون بأننا نتابع حياتنا كأن ابننا لم يمت وعلينا ألا نسمح لهن بذلك”.

لكن من يفرض على النساء كل ذلك؟! المجتمع؟ العائلة؟ أم هن أنفسهن؟

في المدن السورية تختلف ربما طقوس العزاء والحداد لكن الجميع يتفنن بالمواساة بالفاجعة من ستأتي إليك لتذكر مناقب الفقيد ومن ستاتي لتخبرك بأنها رأته قبل يومين وتتعجب موته ومن ستخبرك بأنها مرت بكل ذلك قبلك وبأنك لم تري شيئا من الحزن بعد، لكن الأغرب من يجلسن ويتهامسن “ماذا سيحل بأسرته” “يا لهم من مساكين” وربما يتردد بعض ذلك إلى مسامع أهل المرحوم لكن لا وقت لذلك.

سينتهي العزاء لكن الناس تتوافد بشكل مستمر حتى نهار الأربعين قد يخيل إليك أن مهمتهم انتهت الآن لكنهم سيتحولون الآن إلى دور المراقب ماذا سترتدي متى تخرجين من المنزل من ستقابلين يعتقدون أنهم أوصياء على أصغر تفاصيل حياتك حتى أنهم من الممكن أن يتدخلوا في تسريحة شعرك ولونه أيضا لكن من يعطيهم هذا الحق؟!

النساء أنفسهن هن من سيقررن إن كن سيمارسن حزنهن وفقا لمشاعرهن وما تقتضيه علاقتهن بالمتوفي وحالتهن النفسية أو بأنهن سيمارسون الطقوس التي فرضها المجتمع وسيخضعون لإرادته.

لكن هل للأديان علاقة بالأمر؟؟

لا يعتبر الإسلام الحداد طويلا أمرا محببا بل إن هناك نصا واضحا تجاه الموضوع إذ يقول الرسول محمد ” لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا”

في الكنيسة لم أجد نصا يلزم بالحداد إنما تعارف أتباع الكنيسة على ارتداء الأسود لعام لعامين وأكثر لكن الأمر يعود للمجتمع المحيط وبحسب الشخص ومدى تقبله للأمر.

كذلك الحال بالنسبة للموحدين الدروز العرف الاجتماعي هو الذي يحدد فترة الحداد.

فهل يعقل أن تكون سلطة المجتمع فوق السلطة الدينية؟!

ولدت الحرب في سوريا الكثير من المآسي وخلف الكثير من الموت ما جعل العديد من السوريات يتشحن السواد حدادا على قريب أو عزيز ليزيد المجتمع عذاباتهن عذابات، قتل أخ ليلى في إحدى معارك ريف دمشق قبل عدة أعوام وكان فقدانه فاجعة كسرت ظهر العائلة وظهر ليلى الفتاة العشرينية وبعد عام ونصف من الحداد أرادت ليلى تغيير لون شعرها لم يخطر ببالها ان فكرة كهذه ستفتح النار في وجهها فحين عادت من صالون التجميل فاجأها هجوم جميع من حولها فكيف تصبغ شعرها ولم يمض الكثير على فقدان اخيها؟!

تقول ليلى سئمت من كل ذلك من وضع القواعد لنا كي نحزن على أساسها من قال أن الحزن يكمن في لون الثياب او الشعر أو الجلوس في المنزل؟! الجميع يريد ان تنتهي حياتك هنا لكن الحياة مستمرة شئنا أم أبينا، ولن يغير مظهري الخارجي من الأمر شيئا ولن أنسى أخي ما حييت”.

نور ابراهيم

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *