أخبار

حاويات القمامة … مصدر طعام المشردين من أطفال وفقراء دمشق

خلال جولة بسيطة في شوارع دمشق لابد لك من ملاحظة وجود الكثير من الأشخاص الذين يعبثون في حاويات القمامة بحثاً عن تجارة باتت رائجة اليوم وبكثرة وهي تجارة البلاستيك والزجاج وبقايا الحديد، وبقايا الخضار وبقايا الخبز والفواكه كعلف للدواجن ومزارع البقر ، وأغلب هؤلاء الاشخاص هم ممن شردتهم الحرب وهجرتهم نتيجة قصف النظام السوري لمنازلهم ولم يكون خيار اللجوء إلى دول الجوار متاحاً أمامهم واختاروا البقاء في دمشق والعيش فيها تحت ظروف مالية قاسية جداً وصعبة.

قد تتفاجأ أن من بين الاشخاص الذين يبحثون عن بقايا طعام نساء كبار في السن، أو أم تبحث عن طعام لأطفالها لكونها أصبحت المعيل لاسرتها بعد وفاة زوجها أو فقدانه وحتى إعتقاله دون معرفة مصيره حتى اليوم، ومنهم أيضاً أطفال أيتام باتت شوارع دمشق مكان نومهم ومسكنهم وأصبحت الحاوية مصدر طعامهم.

في شوراع دمشق الكثير من الحكايا المرعبة لقصص عائلات سورية دمرت الحرب حياتهم ويعيشون بحالة فقر معدم، دون نسيان التعتيم الإعلامي الذي يمارسه إعلام النظام على هذه العائلات لعدة أسباب أولها انه يسعى دوماً أن يصور سورية بأنها بخير ولا مشاكل فيها، وثانياً لانه المسؤول الأول والأخير عن واقع هذه العائلات بعد أن هجرهم وقصف منازلهم ودمر حياتهم.

مراسل “أنا إنسان” راقب هذه الظاهرة واقترب منها أكثر للحديث عنها وعن آثارها الاقتصادية والاجتماعية والصحية على من يعمل بها، ويمارسها:

أبو سعيد الجولاني 47 عاماً يلف وجهه بشماغ ويأتي بكامل عائلته في ساعة مبكرة من كل صباح قبل حضور سيارات البلدية لأخذ القمامة، زوجته وأبناءَه يعينونه في عمله يقول لـ “أنا إنسان”: عندي هونداية صينية، وأعمل في معمل بلوك في الريف الغربي من دمشق… لم تعد أجرتي اليومية تكفيني أنا وأولادي الثمانية وزوجتين… نقوم كل صباح بعملية فرز لمحتويات حاويات القمامة، من بلاستيك وزجاج وورق مقوى، وأسلاك نحاسية، نعبئها في أكياس كبيرة، وأذهب بها إلى المعامل في صحنايا والسبينة لإعادة تدويرها وصناعتها. الناتج المالي جيد يتابع واستطعت أن أزوج ابني منه، وهو يدر علي مبلغاً لا بأس به، فلا أحتاج لأحد والحمد لله.

وعن الوقاية الصحية أسأله فيجيب: الله هو الحامي… لا نستخدم وقاية، ولا نلبس كفوف، ولا كمامات؛ ولكننا لا نأكل من الحاويات؛ وهذا كاف ونتحمم يومياً.

أبو حسين عبيد رجل سبعيني يمتلك قطعة أرض وبعض الماشية يربيها يوقف التراكتور في ساعات الفجر الأولى أمام حاويات القمامة ويقوم بفرز بقايا الخبز اليابس والأرز والبرغل كعلف للدواب والدجاج عنده، وبقايا الخضار والفواكه يقول لـ “أنا إنسان”: أجمع ما استطعت من حاويات القمامة كل ما تأكله البقرة عندي والدجاج لا أستطيع أن أشتري علفاً فالعلف غالٍ جداً، وأنا رجل لا أملك إلا هذه البقرة وبعض الدجاج… أعيش من حليب البقرة وبيض الدجاج وبعض ما أزرعه في قطعة الأرض الصغيرة التي أملكها.

في وسط دمشق وبجانب البرلمان السوري تنتشر بعض المطاعم، وهناك بعض النسوة يجلسن بترقب عمال تلك المطاعم الذين يقومون بالتخلص من بقايا الطعام.

امرأة خمسينية يلفها السواد تجلس بالقرب من الحاوية القريبة من مطعم الريان حفظها المارة وعمال المطاعم وحاولوا مساعدتها ومدّ يد العون لها لكنها رفضت وبقيت تعتاش على الفضلات الملقاة في الحاوية… أسألها: ألا يعطيك أحد ثمن سندويشة تقول: “لا أريد من أحد شيئاً… لا أريد لأحد أن يتصدق عليَّ بعد أن فقدت كل شيء الأولاد والزوج والبيت… اذهبوا عني جميعاً لا أريد تعاطفكم ولا رحمتكم… فقد أريد رحمة الله وأن يعجل لي الله بأجلي لألحق بأولادي”.

باسل السيد عامل مطعم يقول: لاحظت عدداً من السيدات اللواتي ينتظرن إفراغ بقايا الطعام في الحاويات ليتناولن الأكياس ويبدأن بفرزها وجمع ما يمكن أكله… كلمت صاحب المطعم الذي قام بجمع بقايا أكل الزبائن ووضعها في عبوات نظيفة، وكان يشرف على ذلك بنفسه ونقوم بربط الأكياس بشكل محكم كي لا تتسخ، ونخرجها لنرميها وما أن نغيب قليلاً حتى يتجمعن تلك النسوة ويتوازعن الأكياس فقط انتبهوا أن ما نرميه صالح للأكل، وهكذا لا نجبر النساء على مد إيديهن ولا نفتح باباً لا يسد في توزيع الطعام على المحتاجين، فالجميع محتاج، والجميع يريد توفير لقمة عيشه وإطعام صغاره.

مازن العيسى طفل بعمر 12 عاماً من ريف حلب، يسرح في منطقة المزة يقوم بجمع الثياب وبقايا الأجهزة الكهربائية، وبقايا الحديد والنحاس والألمنيوم يقول لـ “أنا إنسان”: عمي يعمل في محافظة دمشق على سيارة جمع القمامة دلني على مصدر رزق…. أبحث في حاويات سكان المزة الراقيّن تصوري أنهم يلقون بجواكيت جديدة، وبناطلين في مرة وجدت نقوداً بها وصلت إلى خمسة آلاف ليرة. أجمع ما استطعت من الملبوسات وبقايا الألمنيوم والنحاس والنايلون وأحملها وأبيعها صرت معروفاً…. وأكسب الكثير وأعطي لأهلي أجرة المنزل وعندما أكبر سأشتري سيارة لأنقل الخردوات ولا يستغلني صاحب الهونداية، يضحك من قلبه حتى تتورد وجنتاه.

أسأله ألا تخاف أن يستغلك أحد ويحاول التحرش بك يقول: يحدث هذا، ولكن منطقة المزة كلها وزراء ومسؤولين وكولبات لعساكر… وأنا قبضاي لا تخاف علي… يبتعد عني ويطلق ضحكة قوية، يبدو أن الشارع قد أفهمه الكثير، وأجبره أن يتخلى عن طفولته.

أم كرم مهجرة من ريف دمشق وخلال جولتنا وجدناها تأكل من بقايا طعام في حاوية قمامة وعند سؤالنا عن وضعها لم تجب وجلست جانباً تبكي دون أن تجيب بأي كلمة في البداية ثم عند محاولتنا التخفيف عنها قالت :” أنا لا أريد أي مواساة، أريد الموت فقط والخلاص من هذا العذاب الذي أعيشه، فقد قتل كل أولادي خلال القصف على الغوطة الشرقية حيث كنا محاصرين فيها ودفنتهم كلهم واحداً تلو الآخر ومن ثم دمر بيتي وانتقلت مع زوجي العجوز نحو منزل للإيجار وبعدها قتل أخي وعدد من أقاربي خلال المعارك التي كانت جارية حينها، وحين تمت المصالحة وخرج المقاتلين نحو الشمال تم إعتقال زوجي رغم أنه كما ذكرت لك عجوز ولم أعرف مصيره حتى هذه اللحظة، وأنا حاليا لا سند لي وأعيش حياة تشرد قاسية ومؤلمة … أنا لاأريد شيء … أنتظر الموت بفارغ الصبر”.

لا يستطيع أحد التكهن إلى ما يمكن أن يفعله الإنسان لتأمين لقمة عيشه في ظل امتداد الحرب في سورية وماذا سوف يأكل إذا استمرت الأسعار بالارتفاع، فعند حصار مخيم اليرموك ومركز محافظة دير الزور سمعنا ورأينا أن من حُوصر قد لجأ إلى أكل الكلاب والقطط. ومن الطبيعي أن تكون حاويات القمامة وجهة لمن لا سند له ولا معيل.

تحقيق شهد الصالحاني – دمشق

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *