أخبار
لاجئ سوري في لبنان

خمس سنوات لبنانيات

عمرو بكار 

دخلت لبنان مكرهاً بعد أن غادرت باباعمرو , في بادئ الأمر ظننت لبنان أنه سجن كبير ذو وجوه غريبة ولعل مازاد هذا الشعور عند عبوري الأمانة اللبنانية وقتذاك أنه كان بيدي علبة صودا وصادف وقت فتحي للعلبة ورميي سدادتها عندما وصلت السيارة إلى حاجز للجيش اللبناني غير آبه بما فعلت أو غافل , ما دفع المجنّد أن يطلب مني بحزم وبلهجة قاسية الترجّل لإلتقاطها من الأرض “عالقليلة احترم الحاجز” علًق غاضباً عمّا بدَر منّي من غفلان .

بعد ذلك اكتشفت أن ما برحت خلفي هو السّجن الكبير وأن التخيّلات التي كوّنتها عن لبنان في طريقي إليه وفي المدة الزمنية الأولى من إقامتي فيه هي محض أوهام غبية كانت نتيجة الإنتقال فقط . قطنت في بلدة بقاعية صغيرة بعيدة عن ضجيج المدن , معروفة بهدوئها حيث لا حركة كثيفة في شوارعها , “لوسي” أو السلطان يعقوب التحتا في البقاع الغربي تستند هذه البلدة إلى جبل السلطان يعقوب في السلسلة الشرقية لجبال لبنان وتعتلي هذا الجبل بلدة السلطان يعقوب الفوقا التي تجمعها مع التحتا صلة القرابة والمصاهرة ووحدة اللهجة المعروفة بـ “القاف” وهذا مايميزهن عن باقي البلدات البقاعية تقريباً .

عرفت من اللبنانيين أصنافا وألواناً مختلفة منهم المتديّنين المحافظين قصيري اللحى وطويليها الذين يجذبونك أكثر فأكثر لطريقة تطبيقهم الدين تاركين كلَّ خلق الله لله يحتفظون بكلمة طيبة لا تتصف بالفظاظة وعرفت منهم المتدينين “الظواهريين” أو الشكليين الذين إذا رأيتهم تحسبهم من آل بيت رسول الله لحى طويلة,شارب محفوف , قبعة بيضاء, ثوب أبيض , عود السواك في أفواههم , وخلف هذه المعالم والصفات يختبئ كائن بشري منافٍ تماماً من الناحية الأخلاقية والسلوكية لما توحيه تلك الصفات . ومن اللبنانيين أيضاً غير المتدينين من يذيب القلب لطيبته وعطفه على اللاجئين ومساندته لهم , يطرحون علينا أسئلة كثيرة نحن السوريين أنصار الثورة في لبنان . ماحال الذي تركتم في سورية وكيف ظروفهم وعمّا إذا كان هناك أخبار جديدة من مناطق الاشتباكات , كونهم لايتابعون أخبار التلفاز , فيأخذون الأخبار منّا .

صرت أشمئز وأستنكر من السوري الذي ينهال بالشتائم على الشعب اللبناني حين تقدم أقلية من اللبنانيين على فعل ضد اللاجئين السوريين مايطلق العنان للسوري ليعمم ويشتم كامل الشعب اللبناني. ليس بغريب مافعله وهو قابع في بيته وهو الذي لم يشارك بأي مظاهرة أو وقفة احتجاجية كانت تنظم من قبل لبنانيين وسوريين ولم يكتشف أن نسبة حضور اللبنانيين أكثر من نسبة السوريين . تنقلت كثيراً على الأراضي اللبنانية ماجعلني خبيراً بلبنان واللبنانيين فعشقته وعشقتهم وكذلك جوه المفعم بالحب والألفة وبالرغم من بعض المضايقات التي لمستها أحياناً من الدولة والدوائر الرسمية ولاسيما جهاز الأمن العام “فقد وجدت في لبنان وطناً لي” جملة تحفّظت كثيراً عن الإفصاح عنها أمام أي لبناني ربما لأسباب أحتفظ بها لنفسي .فلبنان ورغم كل الفساد الذي ينتشر فيه كالورم , لم يصل لربع الفساد الذي كان يتسلّط في دولتنا الحكيمة .

يبقى لبنان يملك جيشاً وطنياً من مختلف ألوان أبنائه فهو ليس مقسم ومرتّب مثل “جيشنا العقائدي” فالرُتب العسكرية فيه ليست محسوبة على شخص معين من طائفة معينة إذ إنها موزّعة على جميع الطوائف . ومايزيد التأكيد في كفة ميزان كلامي أن خلال فترة تواجدي في لبنان لم يبدر أي تصرّف غير أخلاقي أو يمكن وصفه بالسيئ من عناصر الجيش على الحواجز المنتشرة على الأراضي اللبنانية التي صرت أعرف أكثرها لكثرة تنقلاتي . وإضافة إلى امتلاك لبنان جيشاً وطنياً فالمواطن اللبناني يبقى قادراً على رفع صوته في وجه أزلام الحكومة , قادراً على أن يكتب وأن يمارس صحافة تملك قدراً من الحرية , قادر على أن يشتكي وأن يتذمر عالماً أن في نهاية اليوم سوف ينام في بيته وبين أولاده لا في بيت خالته بين القرادات اللاتي أصبح السجين السوري خبيراً بها وبمداواة جراحها .

ها أنا الآن أترك لبنان متجهاً إلى “مدينة الضباب” لندن وفي قلبي غصّة صنعتها بلادي العربية . لمَ علينا دائما الرحيل والإنتقال , أعجزت هذه البلاد على إحتضاننا. لم نختر السفر بإرادتنا بل اختاروه لنا , وكان القرار قد صنع ومُرّر من دمشق إلى بيروت . أكره أن أقول ذلك في البلاد العربية لكن هي بلاد تلعننا يوماً بعد آخر منذ أن ولدنا ولاتكف عن لفظنا وتبريئ نفسها منا , لو كان لها أن تتكلم لأخرستنا جميعاً بهدير تأنيبها وتوبيخها . بطون أمهاتنا بصقتنا صدفة على هذه الأرض وصدفة سُمينا بأسماء عربية (علي, أحمد, جعفر ..) إعتباطياً أصبحت لعنتنا عربية لانعرف من ظلمنا وسمانا كان يمكن أن نولد في البلاد الأوروبية ونحظى بأسماء أعجمية ( فيليب,جاك,مايكل..) حيث لا وصايات خارجية تحكمنا مثلما يحدث معنا لمجرد أننا على هذه الأرض “المقدسة” ولاحكومات أخطأت في توجيه بوصلات ترسانتها العسكرية , فبدلاً من أن تديرها نحو (اورشليم) سلّطتها نحو شعوبها الفقيرة الهاتفة بأرواحها , فلاشيء يعيبنا سوى أن قوميتنا عربية وكل ماسواها يسهل تحمّله .

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *