أخبار

هذه حكايتي ..وهذا وجعي ..أنا الكوردي السوري المهاجر                                                    

لافا خالد – سويسرا – خاص ” أنا قصة إنسان “

تركت كل شيء خلفي مرغماً, وسلكت الدروب الوعرة نحو كردستان العراق هرباً من الملاحقات الأمنية بسبب نشاطي الثوري ومشاركتي بالمظاهرات وتنظيم الحراك الشبابي، كذلك الإشعارات الحكومية التي كانت تدعوني للالتحاق بجيش النظام لقتل إخوتي والشعب الثائر آنذاك في المحافظات السورية. رفضت الانصياع في خوض معركة ليست معركتي أو بمعنى أدق رفضت أن أُقتَل أو أن أقتُل ,لذا اخترت الهروب وحياة اللجوء .     

 الحرب في سوريا فرقت عائلتي وجعلتهم في دائرة الخطر ,حيث إخوتي المطلوبين للنظام, وأهلي الذين انتفضوا في وجه الطاغية.

اسمي وائل ملّا ..كردي سوري, أنا شاب في مقتبل العمر, خريج “العلوم الطبيعية” ,كنت  أعمل في أحد المشافي الخاصة في مدينة القامشلي الكردية كمساعد جراح ، وفجأة رأيت نفسي في خيمةٍ ضمن مخيم كبير على أطراف مدينة أربيل الكردستانية بدون عمل ، وبدون أي شيء .

هذا الشعور مؤلم جداً ,و لن يفهمه سوى من عاشه، عدا خسارة الوطن وشعورك الداخلي بالنقص والذل والإهانة, الشي الذي كان يزيد البشاعة بشاعة.

image (5)  قضيت هنالك في الإقليم قرابة ثلاث سنوات ..لم أستطع العيش كمُقْعدٍ في خيمة ينتظر صحن أرزٍ أو مساعدة من هذا و ذاك، بدأت بالعمل التطوعي والعمل في المخيمات المختلفة مع المنظمات الدولية التي من المفترض إنها قادمة من وراء البحار كي تساعد. ساعدتُ قدر استطاعتي، بينما كان نشاطي الإعلامي موجوداً دائماً وبتقدم, إلى أن أصبحتُ مراسلاً لإحدى الوكالات الاخبارية المعروفة هناك ، محاولاً بكل مناسبة وفي كل خبر أو تقرير أو صورة ألتقطها أن أوصل معاناة اللاجئين الكرد السوريين هناك ونواقصهم وشوقهم إلى بلادهم التي كانت تنهار يوم بعد يوم .كنت في كل يوم أعمل جاهدا لكي أكون صوت اللاجئ هناك وأن أقاوم ذلك الواقع الصعب بجميع جزئياته ،ألتقي بالإعلاميين وبحكم علاقاتي الواسعة مع البعض ممن كانوا يعملون بمحطات تلفزيونية كنت أنظم لقاءات تلفزيونية مع حالات خاصة للاجئين في المخيمات علها تجدي نفعاً أو حلاً لقضاياهم، كما أجري لقاءات سياسية مع صناع القرار أو المؤثرين فيه ،القرارات التي لامست كل تفصيل في حياتنا ،لم أجلس في خيمتي يوماً, ولم أسمح للظروف أن تنال مني ،فقد كنت مع مجموعة من الشباب الكرد أول من استقبل وفود الهاربين من كوباني عند بوابة إبراهيم خليل الحدودية بين تركيا والعراق، وقدمنا لهم المساعدات الطبية، كما كانت لنا جولات اسبوعية لباقي المخيمات الأخرى في كردستان أكتب عن هموم الناس هناك, وأوصل صورهم إلى الضمير الانساني ، هذا إن ظل هنالك ضمير .

 ازداد عدد اللاجئين هناك وازدادت المخيمات التي أثقلت كاهل الحكومة الكردية في الإقليم وشكلت عبئاً كبيراً عليها من الناحية الاقتصادية والأمنية والاجتماعية ,خاصةً بعد هجمات التنظيم الارهابي “داعش” واتخاذه من كردستان هدفاً له, وامتلاء الإقليم بالنازحين الموصليين و الهاربين من أبناء شنكال الجريحة.

 كنت كالكثيرين ممن يبحثون عن راحة البالٍ والاستقرار, رغم إيماني الكامل بأن لا راحة ولا استقرار خارج حدود الوطن ، فقررت التوجه إلى بلاد الغرب واعتماد رحلةٍ يتربص بها الموت في كل لحظة, وقد لا أنجوا منه وفيها احتمالٌ كبير في الّا أتمكن من استكمال طريقي نحو وجهتي وتحقيق أهدافي التي كانت أولها وآخرها البحث عن آفاق وفرص جديدة للعمل الصحفي الذي أعشقه، وهذا كان قراري.

 بدون قلم ودفتر, وبدون عدسة تصوير بدأت رحلتي الثانية في اللجوء ،سيراً على الأقدام وعن طريق عدد من المهربين ولمدة يومين ..توجهنا نحو تركيا ( نقطة انطلاق الآلاف من السوريين الهاربين من جحيم الأسد وآلته الفتاكة.. السوريين الباحثين عن لحظة أمان).  الكلمة التي تستفز كل السوريين في تركيا هي ( سوريَلي )، كانوا يقولونها ويوجهون أصابعهم نحونا, وكأن السوري مجرم ..أو أي شيء عديم القيمة.

تركيا الجميلة بطبيعتها رغم إننا لم نحس بذلك الجمال.. بقينا فيها قرابة الشهر إلى أن طلب منا المهرب التوجه إلى مدينة أزمير وركوب البحر كآخر خيار بعد أن باتت كل السبل الأخرى غير ممكنة .

كانت مجموعتنا قرابة العشرين شخصاً .. أطفال.. نساء.. وشباب ,وعلى الرغم من خوفنا إلا أننا قررنا ركوب قارب صيد بصحبة عوائل أخرى.  القارب الذي  يحمل عادةً أربعة أشخاص ركبناه نحن ال ٢٥سورياً.

 بقينا في عرض البحر لمدة ساعتين وربما أكثر ( لا أذكر )… في هاتين الساعتين لا يدرك المرء أي شعور ينتابه، خوفٌ وإيمانْ، سكونٌ  و قهقهات ، تشبث بأطراف المركب ورفعٌ للأيادي، دعاءٌ وبكاءْ.. حينما كان  صوت المركب يتغير, كان النبض يتغير معه، يتوقف المركب يتوقف نبضك ، وأحياناً كان يمر مركبٌ أو بلمٌ آخر بالقرب منك فتخاف على راكبيه أكثر من خوفك على نفسك ، الكل سوري ، الكل هارب ولا غريب في هذا البحر سوى البحر نفسه ومراكب الخفر التركية واليونانية .

 image (2)أطلقنا العنان للأنفاس ما إن وصلنا الى أحد الجزر اليونانية فهناك يحتلك شعورٌ وكأنك منتصر في معركة كنت تظن نفسك الخاسر فيها فيأخذ الناجون الصور ويرسلوها ويقبّلون بعضهم البعض ، وحدها ذاكرتي و عدسة موبايلي “الذي ضاع لاحقا” ما كانوا يوثّقون تفاصيل رحلتنا. نمنا على الأرصفة ..افترشنا الأرض.. تقاسمنا الخبز, وفي كل مرة كنا نشرب الماء سوية من نفس العلبة، كان هناك الكثير من السوريين ..العشرات بل المئات وربما كان العدد أكثر وبباخرة كبيرة بعد يومين توجهنا نحو أحد السواحل القريبة من الحدود المقدونية ثم دخلناها مشياً ومنها وبواسطة قطار طويل توجهنا نحو صربيا.

 صربيا التي قضينا فيها ليلة واحدة وباردة, كنا هناك بصحبة الآلاف الذين انضموا إلينا، في الشوارع ،و في الحدائق ، بالقرب من مكاتب التسجيل … للحظات تقول في نفسك ” لم يبق سوريٌ في بلده”.

 دخلنا كرواتيا في اليوم التالي بعد أن قضينا ساعات وأيام ننتقل من باص إلى باص، من محطة قطار إلى أخرى.. ووحده صراخ البوليس وسياراته ما كان ينظمنا والكل يستعجل الآخر وكأنه متوجهٌ إلى بلاده ..لا هاربهاً منها.

لم يستقبلنا أحد بباقات الورود, ولا حتى بالابتسامات الحقيقية، فقط ضحكات خفية وعيون مليئة بالشفقة والإستغراب.

imageبعدها توجهنا إلى الحدود الهنغارية مشياً على الأقدام أيضاً, وأحياناً كنا نستقل الباصات ,وفي كل مرة نقطع حدود دولة كانت الصحافة العالمية موجودة، الصحفيين، الكاميرات، الأضواء وكأننا أبطال فلمٍ على خشبة مسرح متحرك ..و سألتني صحفية : ماذا كنت تعمل هناك؟ فأجبتها “صحفي” , قالت :”  أنت زميلي ” ، فقلت لها: ” أنا الآن لاجئ، لاجئ فقط”.

 من هنغاريا دخلنا الحدود النمساوية ومنها إلى ألمانيا ( وجهتنا )، حقاً لم نكن نميز بين حدود هذه الدولة أو تلك، فقط كنا نمشي ونمشي و نمشي….

 عندما وصلنا ..حينها علمنا بأننا كنا قرابة أربعة آلاف شخص, والجميع الآن يقوم بإجراءاته المطلوبة ، يلتزم بالمواعيد ، يحضر المحاكم، يستعجل، محاولاً الاستقرار بأقرب وقت ربما ليبعث فيما بعد بطلبٍ لم شمل عائلته أيضاً، هنا كل شيء مختلف.. كل شيء.

 image (6)أسئلة كثيرة ترافقي كل يوم ..يا ترى هل سأبقى هنا ؟ يا ترى إلى متى سأبقى ؟ يا ترى هل سأرى دمشق مرةً أخرى ؟ يا ترى هل ستستقبلني قامشلو إذا عدت يوماً ؟ يا ترى هل ستعود سورية يوماً وسيصبح كل هذا كابوساً مزعجاً لأبنائها ؟ يا ترى هل مصيري الندم ،أم تحقيق ما جئت من أجله ؟ لم نرضخ للظلم في سوريا ولم نستسلم لحياة اللجوء بمراحلها المختلفة ،وما كانت رحلة التوجه إلى الغرب إلا إصراراً مني على تنمية قدراتي وطاقاتي ,وخاصة في مجال الإعلام ،لأستطيع في كل مرة أن أعبر عن تطلعات الملايين من السوريين والكرد ,وإيصال صوتهم و رؤيتهم المستقبلية لبلادهم المضطهدة من كل الجبهات مع الأسف ,علني إذا عدت يوماً، أخدم قضية شعبي بقوة وفخر أو أعود جثة هامدة ناصعة الكفن, ليفخر بي أبنائي .

التعليقات: 1

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *