أخبار

جعفر عوض… اغتيال مع سبق الإصرار

أزهار عويضة – فلسطين – خاص ” أنا قصة إنسان “

   “بعثلي رسالة بعد نص الليل بقولي فيها يُما سامحيني أنا مش راجع ع الدار بعد اليوم، فكرته بيمزح ضحكت ورجعت نمت، فجاة بعد أكم من ساعة صحيت ع دقة الباب وصوت عم يطلب مننا اننا نفتح الباب بسرعة، ركضت ع ابو جعفر وقلتله قوم جعفر استشهد”   

ام جعفر هوض
والدة الشهيد الفلسطيني جعفر عوض

أُعتقل جعفر عوض للمرة الأولى في 9 اب 2008، كنا نعتقد بأنه اعتقال عادي وروتيني للتحقيق تحديداً انه كان صغيراً في السن، عُرض حينها في ذلك الاعتقال على 24 محكمة، حكم عليه 30 شهراً بسبب صغر سنه، لم يُسمح لنا زيارته الا مرة كل ست شهور، سجن في عوفر حتى أكمل التاسع عشر من عمره ونُقل إلى سجن النقب، حينها منتعت من زيارته نهائياً، لم استطع الاطمئنان عليه الا عبر الهاتف، وفي 29 اذار 2011 خرج جعفر من سجنه وعاد الى بيته في بلدة ” بيت أُمر”.

في 2011 قدم التوجيهي ونجح في معدل 57، حاول ان يُسافر ويكمل تعليمه في تركيا لكن سلطات الاحتلال منعته من ذلك، فأكمل دراسته في الكلية العصرية تخصص حقوق، اختار الحقوق ليتسنى له الدفاع عن الاسرى، درس الفصل الاول الثاني الثالث الرابع حتى وصل الفصل الأخير واعتقلته قوات الإحتلال من جديد.

أُعتقل جعفر عوض للمرة الثانية في اليوم الأول من تشرين الثاني 2013، قبل اعتقاله  بليلة واحدة  أرسل لي على جوالي الرسالة التالية:” يُما سامحيني انا مش راجع ع الدار بعد اليوم”، ظننت انه يُمازحني كعادته فعدت للنوم، بعد ساعات من الرسالة اقتحمت قوات الاحتلال بيتنا في بلدة بيت امر، حينما اقتحموا بيتنا هرولت مسرعة نحو ابو جعفر وايقظته قائلة “قوم يا ابو جعفر قوم جعفر استشهد”، لم يخطر في بالي إلا هذا الشيء بعدما تذكرت رسالته.

فتشوا بيتنا بطريقة همجية، ارعبوا اطفالي الصغار، سألونا عن جعفر وطلبوا مننا تسليمه بالحسنى، هددوا باعتقالنا ان لم نساعدهم في تسليمه، لم نكن نعلم بأن جعفر كان يختبئ في كازية والده المجاورة لبيتنا ويُراقبهم منها.

عاد صباح اليوم التالي جعفر إلى البيت حاول والده ان يُقنعه في تسليم نفسه لكنه رفض ذلك وهرب من البيت، خرج والده للبحث عنه في القرية وجوارها لكنه لم يعثر عليه، وكان جند الاحتلال بدورهم يبحثون عن جعفر، اتصل بنا الضابط المسؤول في بلدة عصيون وهددنا ان لم نجده ونسلمه سيجده ويقتله، وجده والده حينها في احدى الاراضي المجاورة للقرية، واخذته انا واخوتي وسلمناه لحاجز عاصيون.

وعدنا الضابط هناك بأنه سيسأله بعض الأسئلة ويُعيده الينا، انتظرنا ساعات وايام ولم يصلنا أي خبر عنه، لم اترك نادي اسير او وزارة اسرى او مسؤول الا واستنجدته في معرفة أي معلومة عن جعفر تُطفئ نار قلبي وتطمئنه، بقينا 15 يوماً حتى وصلنا من نادي الأسير بأن محكمته ستكون في اليوم ال16 من اعتقاله.

ذهبنا إلى المحكمة للأطمئنان عليه وجدناه متعباً منهكاً هزيلاً من كثرة الضرب، كانت احدى وسائل تعذيبهم تسليط الضوء على عينيه حتى يفقد بصره رويداً رويداً.

بقي ما يقارب ال37 يوماً في عسقلان ما بين المحاكم والتحقيق، وتم نقله الى عوفر حيث مكث فيه ما يُقارب الشهر، حتى نُقل إلى أخطر سجون الاحتلال وهو سجن “ايشل”.

سجن “ايشل” تحت الارض يحتوي على الكثير من الدرج والطرقات، عليك ان تمشي ما يقارب النصف ساعة لتصل الى قاعة الزيارة، فكان يحتوي على سوء تغذية وصحة وسوء معاملة، زرته هناك عدة مرات كانت صحته جيدة جداً، حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم.

شعر جعفر داخل السجن بالرشح فطلب ان يُعرض على العيادة الخاصة في السجن، تم نقله من زنزانته لعيادة بلدة ايشل في شهر ايار 2014، حيث تم اعطاءه حقنة من قبل ضابط برتبة نجمتين وليس طبيباً، لم يتم فحصه من قبل أي طبيب مختص هناك، زرته ثلاث مرات بعد ذلك لكنني لم الحظ عليه شيئاً، فلم يظهر عليه المرض إلا بعد حين وحين.

في رمضان ال2014 منعنا من زيارته في احداث غزة، فكانت الزيارة ممنوعة لإبناء حركة الجهاد الاسلامي وحماس، تعب خلال تلك الفترة ولم يستطع ان يصوم فأرسل لي عبر رفاقه في السجن أن أكفر صيامه، كان الأسرى هناك في تلك الفترة يطبخون لإجله حتى لا يتعب .، لم استطع زيارته حينها ما يقارب 4 شهور.

زرته في تشرين الاول كانت صحته جيدة، لم يشك لي الا من وجع عينيه، واستطعت ان أدخل له نظارة داخل السجن بعدما اخذوا له قياساتها، بين الزيارة الاولى والزيارة الثانية كانت هنا 15 يوماً، في الاولى كان وزنه 78 كيلو وفي الثانية 38 كيلو، خلال 15 يوماً فقد من وزنه 40 كيلو، عدت الى البيت اخبرت زوجي واقاربنا بما رأيته لم يُصدقني احداً، اعتقد الجميع بأنني ابالغ بسبب خوفي الدائم عليه.

كانت المحامية احلام حداد التي تتابع قضية جعفر، لم تكن تزره احلام الا في المحاكم، كانت مهملة جداً لقضية جعفر وتُعطينا وعود في الهواء.

 حاولت جاهدة ان اوصل العلاج لجعفر داخل السجن لكنني لم انجح في ذلك، والوصفات الطبيعية التي كنت اعطيه إياها عبر الهاتف لم تساعده كثيراً، حتى اتصلت دينا الجعبري بي وسألتني ان كنت اعلم شيئاً عن جعفر واجبتها بالنفي، فقالت: يا ام جعفر انت لازم تلحقي ابنك لانه تعبان بالمستشفى احنا جهزنالك التصاريح وسيارة تاخذك لهناك”.

دخل جعفر في الغيبوبة في 11 كانون الاول 2014، استطعت ان اعرفه بالرغم من كثرة الاجهزة التي تحيط جسمه، فقلب الام لا يخطئ، كنت اعتقد بأنه يسمعني لانه كان يُحرك جسمه كلما تحدثت اليه، لكنه مع الاسف كان يحركه لا ارادياً وليس لانه يسمعني، كنت اراه حينها يشبه عجوزاً في السبعين من عمره حسمه كهلاً نحيلاً متعباً.

قبر جعفر عوضاعلمنا الاطباء في مستشفى “اساف هروفيه” في الرملة بأ؟ن جعفر يُعاني من تلف في الاعضاء الداخلية والبنكرياس والرئة اليمنى والغدة الدرقية ونخور في العضلات والسكري، وهذا مما ادى الى ادخاله في غيبوبة، حاول الاطباء انكار الداء الذي زرعه قوات الاحتلال في جسم جعفر وان يقنعونا بان جعفر يعاني من مرض وراثي لكن جدتي اكدت بأنه لا يوجد لدينا أي مرض وراثي.

في كل زيارة لجعفر كان دائماً يطلب من والده ان يُعيده ليعيش معنا في بيتنا وقريته بين اخوته واصدقائه، كان دائما يشعر بالموت القريب، فكان مجرد خيال انسان يحركه كرسي متحرك لا اكثر .

اخر مرة في “اساف هروفيه” ذهبنا لزيارته لكننا لم ننجح، فسلطات الاحتلال كانت قد اعادته الى السجن بالرغم من حالاته الصحية السيئة، مُنعنا من زيارته 18 يوماً بعد كل ذلك بدأ يتحرك نادي الاسير نحو الاجراءات التي ستحرر جعفر من سجون الاحتلال، تم تغيير محاميته وتعيين اخراً بدلاً منها يُدعى جواد بولص.

ذات يوم لا اذكر تاريخ ذلك بالضبط لكن احدى الضباط سمح لجعفر ان يحدثنا من هاتفه الشخصي، واعترف لجعفر بأنهم هم من زرع بجسده الداء وهم فقط من يملكون حقنة العلاج، لكن كل هذا كان مقابل ان يعمل لصالحهم ويصبح جاسوساً لهم ويخون بلده واهله ورفاقه ودينه، لكن جعفر بصلابته التي اعتدناها اتخذ الموت سبيلاً على ان يكون خائناً لدم رفاقه.

بعد ذلك تعرض جعفر لثلاث محاكم ما بين 8 كانون اول 2014 و21 كانون ثاني 2015، عرض المحامي جواد بولص صفقة على محكمة الاحتلال  على دفع مبلغ 40 الف شيقل وتمديد الحكم 18 شهراً لمدة 5 سنوات مع وقف التنفيذ مقابل ان يتحرر جعفر من الاسر ووافق عليها كلا الطرفين.

دُفع المبلغ من قبل فاعل خير من بلدة بيت امر، وأطلق سراح جعفر في 21 كانون الثاني 2015، ذهبنا لاستلامه من سجن عوفر ، بقينا ننتظره من الثامنه صباحاً حتى الساعة السادسة والنصف مساءاً، بقي جعفر في سيارة نقل الاسرى بدون دواء بدون اكل بدون تدفئة، بقينا ننتظره تحت البرد والجوع القاتل، كانت مشاعر الانتظار والشوق تتخبطان في داخلنا، لم اشعر بمرارة الانتظار الا في ذلك اليوم، وكان شوقنا لغمرته كسابق عهدنا قبل السجن كفيل ليمنحنا صبر الانتظار.

خرج جعفر الساعة السادسة والنصف مساءً، تم رميه على الارض من قبل جنود الاحتلال وهم على علم تام بعدم مقدرته على المشي، اسرعت سيارة الاسعاف التابعة للهلال الاحمر في رام الله ونقلته الى سيارة اسعاف الخليل التي كانت تنظرنا في وادي النار حيث نقلوه إلى المستشفى الاهلي في محافظة الخليل.

الصورة الاخيرة للشهيد جعفر عوض قبل استشهاده
الصورة الاخيرة للشهيد جعفر عوض قبل استشهاده

كان ينتظرنا هناك الاهل والاقارب والجيران والاصحاب، لم يكن يتوقع احدنا بأنه سيعيش ثلاثة اشهر مع وضعه الصحي السيء، بعد وصولنا حاول اطباء المستشفى الأهلي التواصل مع اطباء مستشفى “ايساف هروفيه” ليتسنى لهم معرفة علاج جعفر وطريقة اعطاءه العلاج ومواعيده، كان الرد من ادارة المستشفى الاسرائيلي بأن جعفر عوض ملف وتم حرقه لا نستطيع المساعدة بتاتاً، لحسن الحظ بأن جعفر كان يذكر جيداً انواع الحقن التي كان يتناولها ومواعيدها فساعد الاطباء كثيراً حينها.

حاولنا جاهدين السفر لنعالجه في المانيا، احضرنا جوازات سفرنا وانتظرنا الجهات المسؤوله في اتمام معاملة السفر والعلاج هناك، لكنها تأخرت وصحة جعفر كانت تسوء كل يوم من سيء الى اسوأ.

بعدما تدهورت صحته لم تقبل أي مشفى اسرائيلي استقبال جعفر للعلاج الا مشفى المطلع، نقلناه هناك وهو في غيبوبة تامة، خيرني الطبيب المسؤول بالمطلع بين ان نُخدر جعفر ولا نعلم متى يصحى من غيبوبته او نجعله يصحى من الغيبوبة وحده بمساعدة الرب، فتوكلت على الله اخترت ان نتركه يصحى بدون تخدير، واعلمت ابي في الموضوع لانه لم يكن معي حينها احداً غيره.

فعلاً في اليوم الثاني لوصولنا المستشفى استيقظ جعفر من غيبوبته، مكثنا هناك ما يُقارب 24 يوماً، كنت انام بجانب غرفته مفترشة الأرض سريري في البرد، كان هناك طبيباً يُحبطه كلما فحصه حينما كان يعلمه بأن هناك اسيراً اخذ نفس الحقنة في السجن وتوفي بعد 50 يوماً من الحقنة.

اخذ الاطباء من المطلع ما يقارب ال7 عينات من جسم جعفر وارسلوها الى مختبرات مستشفى المقاصد ومستشفى هداسا تحت اسم مستعار لإن المستشفيات الاسرائيلية رفضت اعطاءه أي علاج، حتى طبيب العيون في المقاصد احبطه حينما قال له:”جعفر راجعني بعد شهرين اذا ضليت عايش”، استفزنا في كلامه وقتل مت تبقى من امل في الحياة لدى جعفر.

في اليوم ال23 لجعفر في المقاصد فجأة قررت ادارة المستشفى اعطاء جعفر قيد خروج الى بيته، حيث ادعت بأنه لا يوجد أي علاج لديها لجعفر، وفي اليوم الاخير لإجبارنا على الخروج من المستشفى رفضت ادارة المستشفى اعطاء جعفر أي علاج، ورفض مدير المستشفى التحدث إلينا او اعطائنا أي تبرير، على ما يبدو بان هناك كانت اوامر من المخابرات الاسرائيلية بأن يخرج جعفر فوراً الى بيته.

عدنا مع جعفر الى بيتنا، مكث معنا ما يقارب الاسبوعين، كان يتحدث مع الناس واصحابه واخوته، وفي اخر يومين له احتفلنا بعيد ميلاد أخته، كان حينها يأكل بشراهة ليست طبيعية، كنت فرحة حينها ولم اسمح لأحد من اخوته ان يلتقط له أي صورة وهو يأكل خوفاُ عليه من الحسد،وكان يخرج من البيت لوحده ويعود لوحده، كان يمارس حيته بشكل طبيعي.

في 8 نيسان 2015 ايقظني  الساعة الثانية بعد نصف الليل لأشغل له المروحة فالشوب كان يقتله حسب ما قاله لي، وفي السادسة والنصف عاد وايقظني حتى أطفئها فكان جسده النحيل يتجمد من البرد حينها، وقرأت له بعضاً من سور القرأن، وطلب من والده قبل ان يخرج بمرافقة اخيه الصغير للرحلة المدرسية اوصاه بأن يتابع موضوع سفره للعلاج بألمانيا.

لأول مرة في ذلك اليوم اخوه الصغير يخرج من البيت ويلتفت لجعفر قبل خروجه مودعاً اياه قائلاً”مع السلامة يخوي يا جعفر” كأنه كان يعلم بأنه سيعود إلى البيت ولن يلقى جعفر بأنتظاره، سيعود إلى البيت ولن يلقى من ينتظره ليسأله عن المدرسة واخباره.

في ذلك اليوم تعب جعفر كثيراً لدرجة أنه لم يعد قادر على التنفس بتاتاً، اتصلت بوالده وعمه والاسعاف، حاولوا اعطائه الاسعافات الاولية في البيت فلم ينجحوا، نقلوه لى المستشفى فيما يقارب ربع ساعة، وصل المشفى ومكث فيها يومين، اعطاه الأطباء يومين للعيش لا اكثر، جائني الطبيب حينها وقال لي ليلة وفاته: “اليوم بدي اسمحلك يا ام جعفر تدخلي تقعدي فوق راس جعفر لانه بقى الو ساعات معدودة” حينها اشترطت عليه ان ابقى حتى عندما يزيل الأجهزة عن جسمه، فقال لي: “انا طبيب ومش متحمل الموقف كيف انت أمه”.

استشهد جعفر في10نيسان ال2015، بدأنا بالتحضير لجنازته، رفضت ان يضعوه في البراد، ذهب والدي وبعض الاقارب ليُشاركون في حمام الشهيد، كان من بينهم زياد عوض ابن عم الشهيد جعفر همس لجعفر في أذنه اثناء الحمام قائلاً ” اشفعلي في جنة الله يا رفيقي”، كأنه كان يشعر بالموت هو ايضاً، لم يمض على كلامه ساعات الا واستشهد في جنازة الشهيد حعفر برصاصة في رأسه اطلقها عليه جنود الاحتلال قاصدين قتله، خلال يوم واحد استشهد شابان من عائلة واحدة، ومن هنا انطلقت مقولة “شهيد يُشيع جنازة شهيد”.

كسر ضهري موته، لليوم ما زلت لا أصدق ما حدث لإبني في سجونهم، جعفر كان اقرب ابنائي علي لإنه البكر، كان حنون لطيف مؤدب، كان يُحب أن أقرأ له القرأن الكريم دائماً، جعفر عوض ابن الثانية والعشرون لم يرى شيئاً في حياته يتم قتله بدم بارد والسبب تشكيل خطر على امن اسرائيل، عن أي امن يتحدثون لا احد يعلم، ابني جعفر لم يكن الأول الذي اغتالوه بهذه الطرية ولم يكن الأخير.

روت قصة جعفر الى ” أنا قصة إنسان ” والدة جعفر 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *