أخبار

حكاية غسان الفلسطيني … مع الاعتقال والمرض

 

ازهار عويضة – فلسطين _ خاص ” أنا قصة إنسان ” 

حشرتنا قوات الإحتلال انا ووالده واخواته في غرفة صغيرة في منزلنا، وحشرت غسان في غرفة الصالة المقابلة لغرفتنا، ووضعوا ابني محمد المعتقل لديهم في الممر الذي يفصل الغرفتين، خيروا غسان بين اعترافه لسماحهم بدخول ابني محمد ليودعنا ويُبدل ملابسه وبين عدم اعترافه وعدم سماحهم لمحمد برؤيتنا، فكان رد غسان:” هذا ليس اخي وانا لا اعرفه ولا يوجد لدي ما اقوله لكم”.

في ملامحها المتواضعة المحبة الخمسينية، مع كل غصة كانت تشاركنا بها وكل دمعة وجع وشوق إلى ابنها البكر الذي كان لها الأبن والاخ والصديق، ضحكتها تارة على نهفاته ودمعتها تارة أخرى على وجعه، ام غسان الريماوي ام الشهيد والأسير روت رحلة ابنها مع الإعتقال والمرض والثورة من اجل حرية شعبه وارضه وكرامته، روت قصة كبريائه وجبروته اام كافة اشكال التعذيب النفسي التي مارسها الاحتلال الصهيوني عليه، بهذه الكلمات حدثتنا عن غسان الانسان والثائر في نفس الوقت.

                         الإعتقال الأول

الاحتلال الإسرائيلي حرم غسان من تقديم امتحانات التوجيهي عندما اعتقله للمرة الاولى في سن السابعة عشر، وكأن ذلك كان مُخططاً له عندما اقتحمت قوات الاحتلال بيتنا في منتصف الليل واقتادته الى معسكر حوارة  حيث مكث هناك ما يُقارب الاسبوعين، ومن بعدها اقتادوه إلى سجن هشارون، حيث تعمدوا تقديمه للمحكمة في ايام تقديم امتحانات التوجيهي في السجن، وحكم عليه ما يُقارب 22 شهراً وكفالة مالية.

                         الإعتقال الثاني

كانت ليلة ماطرة جداً وباردة بصورة غير طبيعية في شتاء 2010، اقتحمت قوات الاحتلال بيتنا مرة أخرى بقنابلها المسيلة للدموع لايقاظنا، واحدثوا خراباً في المنزل، واقتادوا غسان معهم إلى معتقل المسكوبية في القدس للتحقيق معه، حيث قضى هناك 7 أشهر ما بين التحقيق والمحاكم، في المحكمة ما قبل الأخيرة ذهب والده فرأى وجهه أبيض مائل للصفار، وجسده هزيلاً متعباً وكأنه وردة محرومة من طعم المياه، كان من الواضح في تلك المحكمة أنه سيحكم ما يُقارب 22 شهراً اي ما يُقارب السنتين، فعندما حدثني والده عن مظهر غسان هدأت من روعه قائلة: “أكيد من السجن هيك صارلوا مش اشي خطير يعني”.

في المحكمة الأخيرة عندما وصل والده، أخبره القاضي بأنه حُكم على غسان ب 7 اشهر وكفالة مالية قدرها 2000 شاقل وعليه دفع الغرامة بشكل فوري لإطلاق سراح غسان، احتجزوه في غرفة صغيرة باردة حتى اتمت أخته معاملة الدفع في اليوم التالي وأخرجناه، كان اطلاق سراح غسان مفاجأة لم يتوقعها أحد، والسؤال الذي تداوله الجميع كيف خرج غسان ب 7 اشهر وكفالة مالية وهناك حكم 22 شهراً عليه؟

سؤال حيَّر جميع العائلة والأقارب والأصدقاء، محكمة الإحتلال لا تفعل هذا من عبث، فهناك سراً لم يعرفه أحد قط.

                         وصول غسان إلى منزله

وصل غسان إلى المنزل كان مجرد خيال انسان ليس أكثر، وجهه أبيض من شدة الصفار، لا يقوى على جر نفسه بتاتاً، غسان لم يُعاني من اي مرض قبل سجنته الأخيرة، حاولنا معه جاهدين أن نأخذه إلى المستشفى للإطمئنان لكنه رفض قائلاً: ” بدكو توخذوني من السجن لسجن المستشفى إتركوني يومين وبروح”

كان شامخاً دائماً حتى في عز انكساراته، لم يخف ولم يرضخ لم يُفكر يوماً بالهزيمة أمام أحد، كان سلاحه أمام كل هذا الطغيان الذي واجهه في حياته من مرضه والإحتلال الإيمان المطلق بعدالة قضيته وحرية شعبه الفلسطيني.

ذهب إلى عيادة القرية بعد يومين من خروجه من السجن ليجري بعض الفحوصات الطبية، ولإن حدسه كان يُخبره بنتيجة الفحوصات السيئة تأخر عن احضار النتيجة يوماً، ونزلنا إلى مستشفى رام الله للإطمئنان عليه، لكن فحوصاته كانت سيئة وغير مستقرة، ودمه كان 4 ، فسألت الطبيب هناك عنه فلم يُطمئني قائلاً: فحوصاته سيئة فنحن لا نعلم ما فعلوا به في السجن فما عليك غير الصبر يا خالة.

منذ البداية كانت شكوك الاطباء اصابته بمرض السرطان، فتم تحويله إلى بيت جالا حيث مكث هناك يصارع المرض اربعة ايام، ومن ثم اعطته وزارة الصحة الفلسطينية تحويلة إلى المستشفى الحسيني في الأردن على الفور، وفي الأردن تم علاجه على اتم وجه حيث زرعوا له نخاع من اخيه الأسير احمد الريماوي، وطاب من المرض وعاد إلى المنزل من جديد.

                                   عودة المرض مرة أخرى

عاد المرض مرة أخرى ليتقاسم مع غسان جسده وروحه، لكنه عاد في شكل مختلف فكان السرطان في الغدد المفاوية، لم يستطع العودة إلى الأردن من اجل العلاج لإن السلطة لم تدفع ما عليها من مستحقات لمستشفى الحسيني بالأردن من اجل علاج غسان، لذلك السلطة لم تستطع تحويله وهو لم يستطع المراجعة .

في كل يوم تزداد صحة غسان سوءا اكثر من اليوم الذي يسبقه، كان المرض يأكل ما يشاء من جسده، فلم يعد يقوى على المشي او الوقوف، فأصبح كالصحراء التي تشتهي المطر ولا تجده، كالفجر الذي يصحو بدون شمس في الشتاء.

بقي غسان يُكابر على المرض حتى لم يعد يقوى ان يقف على رجليه، غسان حاول جاهداً اخفاء معالم التعب والارهاق من المرض عن ملامحه كي لا يوجعنا، كان حنوناً محباً صادقاً في مشاعره، كانت مصدر الأمان لأخواته ولوالديه، حتى اننا قدنا له القران على ابنة خاله لكنه رفض الاستمرار معها حتى يحميها من رحلة المعاناة الي يقضيها مع المرض فتركها وسبيلها، فكان مثالاً للتضحية من اجل الغير كيف لا وهو المضحي من اجل الارض والحرية والكرامة والانسان.

قمنا بتقديم طلب تحويله مرة أخرى الى مستشفى الحسيني حيث تعالج من قبل، فوجدنا الرفض من قبل السلطة، فهاجمهم غسان في بعض منشوراته على الفايسبوك، فوجدنا جميع الجهات المختصة تتصل بنا حتى يتم تحويله إلى مستشفى النجاح في نابلس.

                       مستشفى النجاح وغسان والمعاناة

بدأ يتلقى علاجه بالجلسات الكيماوية في مستشفى النجاح في نابلس، لم يتلقى علاجه يوماً هناك بدون اتعابه واتعابنا نفسياً، تحديداً بأن علاجه كان يأتي من الخارج، مرات عدة كان يعود غسان من مستشفى النجاح كالعائد بخفي حنين اي بدون تلقي العلاج والسبب الدائم عدم توفر تخت له في المستشفى، كانت دائماً المستشفى تؤخر علاج غسان لإسبابها المختلفة وحججها التي لا تحتوي على اي معنى، والهدف واحد لا غير المساومة .

بعد ذلك اعطته السلطة تحويلة طبية على مستشفى المطلع بحجة أنه انهى العلاج في مستشفى النجاح، فشلنا في الحصول على تصريح له، لكننا استطعنا تهريبه إلى هناك.

                                        مستشفى المطلع

وصل غسان إلى المطلع بعد عناء كبير في عملية التهريب، فليس من السهل تهريب شخص ما إلى الداخل المحتل تحديداً بفرض القيود حول الجدار الفاصل،  لا اقتصادياً ولا حتى معنوياً.

حصل غسان على ورقة دخول إلى المستشفى، تم اعطاءه تخت من اجل تلقي العلاج، وكنت المفاجأة بأن ادارة المستشفى قالت لغسان بأنها لا تملك العلاج له وعليه العودة فوراً إلى مستشفى النجاح في نابلس.

عاد إلى كالعائد بخفي حنين في يوم ماطر وبارد، كبرودة الانسانية التي يتعامل بها الكيان الصهويني مع اصحاب الارض الاصليين، كنا جمعينا ننتظر يومه الأخير، فصحته كانت تزداد سوءاً كلما تأخر في تلقي العلاج، كل ذلك كان من اجل احباطه وكسر جبروته واجباره على الاعتراف عن شيء نحن اهله لا نملك اي معلومات عنه.

                               إقتحام الجيش للمنزل ليلاً

اقتحمت قوات الاحتلال منزلنا بقوات عسكرية كبيرة ليلاً، حاصرونا نحن العائلة في غرفة واحدة، وحاصروا غسان في الأخرى، واقفلوهم حتى لا نراه ولا يرانا، كان ذلك بعد اعتقال اخيه محمد بإسبوع واحد فقط، ضابط صهيوني جلس في غرفتنا وأخر جلس في غرفة الصالة مع غسان.

حاول الضابط في غرفة غسان الضغط عليه من اجل الاعتراف بالتهم التي توجهت لإخيه، كان يصرخ بصوت منخفض لإنه لا يقوى على تعلية صوته بسبب المرض، لا يوجد لدي ما اقوله لكم.

فتشوا البيت بطريقة مهينة بكلابهم أثناء تحقيقهم مع غسان، وكانوا يحققون معنا في الغرفة الثانية، قالو لوالده بالحرف “نحن لا يهمنا وجود اعلام ولافتات في البيت لإنها لا تُهدد أمن اسرائيل، ما يهمنا هو ما يهدد امننا فقط، لو أن ابنك غسان حريص على نفسه لتعاون معنا وانتهت جميع مشاكله”، غضبت انا امه وصرخت في وجه الضابط قائلة: كيف يعني يتعاون معكو مجنون انتا، فأجابني الضابط: ” ليس كما فهمت يا خالتي ام غسان فقط نريد ان يعترف على شيئ نريده نحن”.

مشاكل غسان لم تكن غير مرضه وعدم توفر العلاج له، وهذا ما زادنا شكاً بأن غسان تم اعطاءه شيئاً ما ليتسرب السرطان إلى جسده، تحديداً انه لم يتعرض لأي مرض او خلل صحي قبل مرضه.

كان بين الغرفة التي تفصلنا عن غسان وغرفته ممر، كان ابني الثاني محمد ملقي على الممر هنا بدأ المساومة مع غسان من قبل الاحتلال، كان بابي الغرفتين مقفلين، قال الضابط لغسان: ” إن اردت اخاك ان يدخل ليودع اهلك ويُبدل ملابسه عليك بالإعتراف لنا بكل شيء”.

كان غسان صاحب الجبروت الذي لا ينكسر ابداً تحديداً انه كان يؤمن بقضيته وعدالتها اكثر من قوة ايمانه بخالقه، كان رد غسان واضحاً بالرغم من الوجع الذي تلاه هذا الرد على غسان واهله واخيه محمد في السجن، رد قائلاً: هذا ليس اخي وانا لا اعرفه، ولا يوجد لدي ما اقوله لكم”.

انكسرت قوات الاحتلال امام جبروت هذا الشاب الصغير الذي رهن حياته من اجل قضيته العادلة، فأخذت اخيه محمداً معها وخرجت من البيت منكسرة وحتى تسترد كسارتها امام هذا الشاب الحر اصطحبته معها إلى اقرب مستوطنة في البرد القارص فجر ذلك اليوم وربطته على عامود كهربائي ولم تسأل عن صحته السيئة فقط لتسترد اعتبارها امامه، لكنه كان الأقوى ولم يأبه لكل وسائل التعذيب هذه وبقي مربوطاً وشامخا حتى الصباح إلى حين مرور احد قائدي الفوردات واطلق سراحه ونقله إلى بيته.

                          المخابرات الفلسطينية وغسان

بعد اسبوع من اقتحام قوات الاحتلال الاسرائيلية منزلنا، استدعت المخابرات الفلسطينية غسان الساعة العاشرة ليلاً، حققت معه كما حقق معه الضابط الاسرائيلي نفس الأسئلة، نفس الاسلوب، نفس التعامل، لكن غسان كان نادراً جداً لا يقول إلا ما يجب ان يُقال فقط لا غير.

في شهادة احدى اصدقاء غسان المقربين منه امجد سعدات الذي بدوره اكد بأن تأخير علاج غسان من قبل السلطة شارك في القضاء على حياته فالتنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال في قضيته كان على مدار الساعه، نحن كنا ننتظره امام مقر المخابرات الفلسطينية في رام الله، حيث استدعت غسان لتحقق معه بشأن العبوة الناسفة التي صنعها محمد  قبل سجنه، حيث تم التحقيق معه لمدة 12 ساعة، غسان لم يكن يعلم عن الموضوع شيئاً واجابهم جوابه للاحتلال الاسرائيلي، ولكن هدف المخابرات الفلسطينية هو اظهارهم للاحتلال بأنهم استطاعوا السيطرة على الشيء الذي يبحثون عنه، عندما رفض ذلك عاقبوه بقطع المعاش الذي يتقاضاه كأسير ورفضوا اعطاءه تحويلة من اجل الإحتلال.

بعد معاناة كبيرة من اجل الحصول على تحويلة، تم منحه تحويلة إلى مشفى هداسا في الأراضي المحتلة، كانت السلطة تعلم تماماً بأن غسان لا يستطيع الدخول إلى الأراضي المحتلة، فقط ليقولوا له هذا ما لدينا وما تبقى في يديك انت.

في قسم التحويلات قالت له أحدهم اذهب إلى العيادة في الأردن حتى يتسنى لنا الحصول على تحويلة من اجلك وارسالها، فنسق مع عامل في سيارة اسعاف وابن عمه وسافروا إلى الأردن .

                              الأردن ومحاولة الحصول على تحويلة

وصل الأردن غسان وبدأ في اجراء الفحوصات ومحاولة الحصول على تحويلة، من الضفة الغربية كنا نحن ورفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نسعى من اجل الحصول له على تحويلة من جهة، واصدقائه ومعارفه واقاربه في الأردن من جهة أخرى.

بعد كل الجهود التي فعلناها من اجله تم اعطاءه تحويلة إلى مصر، فوصلتنا ورقة من السفارة عن امكانية دخوله إلى مصر، ووزارة الصحة اعطتنا تحويلة لمستشفى في القاهرة من اجل علاجه هناك، فضل الاطباء سفره ليلاً ليدخل إلى المشفى صباحاً على الفور، فسافر هو وابن عمه واحد اصدقائه الى مصر، وانا ارسلت له نقود واوراقا مطلوبة من اجل اخذها معه.

وصل غسان إلى مطار القاهرة، تم احتجازه هناك وتنقله من غرفة لغرفة، وهو المريض الذي لا يقوى على المشي والتنقل، لكن الأمن المصري لم يرحمه ايضاً بالرغم من وضعه الصحي المأساوي، لم ينده عليه احدهم الا ب”تعال يا مسطور وروح يا مسطول”.

اعتدنا في الانظمة العربية على عدم احترام الفرد والانسان، فلا غريب على نظام عسكري استبدادي ان يفعل كل هذا بغسان، سأله احد الضباط: هل تملك ورقة للدخول؟، فأعطاهم الورقة، فرد عليه أحدهم مستهزءاً: خذ هذه الورقة وبع بها الترمس، فأنت امنياً لا تستطيع دخول مصر.

لم يسمح لمرافقي غسان الدخول والاطمئنان عليه في المطار، لكن الشوفير كان مصري فدخل ليطمئن عليه، فسألهم عن مشكلة غسان ولما يتم احتجازه طول هذا الوقت، فأجابه احدهم: غسان ممنوع امنياً من دخول مصر، وتم ارجاعه إلى الأردن.

اتصل بي غسان وطلب مني المجيء اليه قبل وفاته بثلاثة اسابيع، قال لي بالحرف: ” ياما انا بدي احاول اتعالج ع حسابي”، واصبح شباب من الجبهة الشعبية والسفارة الفلسطينية محاولة علاج غسان في الأردن، لكن كلما نجحنا في ادخاله إلى المشفى كان هناك شيئاً قبل دخوله في يوم يُعيق كل شيء فيمنع غسان من تلقي لعلاج، حتى أن هناك نائباً أردنياً حاول مساعدتنا لكنه فشل.

كانت اصعب ايام غسان في الثلاثة اسابيع الأخيرة، ليست فقط صعبة عليه انما كانت صعبة علينا وعلى اصدقائه وعلى اقاربه وكل من أحب غسان وشارك غسان في النضال.

ذهب غسان ليُجري بعض لبفحوصات الطبية في مستشفى الحسيني فرأه طبيبه السابق الذي عالجه في المرة الأولى، وطلب من الممرضه التروي في فحوصات غسان لعله يستطيع جلب منحة مادية من اجل علاجه، وفعلاً نجح الطبيب بذلك، ودفعت ثمن الفحوصات لجنة المساعدة هناك.

عشرة ايام قضاها غسان منهكاً من جسده ومن مرضه، لم يقوى عليه الاحتلال يوماً، لم تكسر جميع المساومات جبروته لكنه المرض قضى على كبريائه وجبروته.

عدت الى بيت ريما قبل دخوله إلى المشفى بيوم واحد، عدت وقلبي ما زال معلقاً على جدران روحه في الأردن، تركت عقلي وقلبي معه وعدت وحيدة غريبة الى البيت الذي ترعرع فيه غسان.

قبل وفاته بيوم طلب من اصدقائه الإتصال بيلأتي اليه، وفعلاً في اليوم التالي قطعت جواز سفر لخته وسافرنا سوية إليه، كان كل عشرة دقائق يسأل عني وعن وصولي، حتى دخل في غيبوبة.

وصلت إلى المشفى وهرولت مسرعة نحو غرفته في الانعاش، لم اعرفه من كثرة الاسلاك المعلقة به، لم يكن غسان الذي ربيته على يدي، جسده الهزيل الضعيف غير ملامحه تماماً، طلبت من الممرض عدة مرات لادخالي الى غرفته، لكنه بقي يرفض حتى مل مني وادخلني لأتحدث معه من الباب.

في المرة الثانية بعد ساعة من عودتي الى غرفة غسان وجدت الطبيب المسؤول عن حالة غسان، فطلبت منه الدخول مشيرة إليه بأنني انا أمه، فحدثني بصراحة عن تفاصيل وضع غسان الصحي، قائلاً: غسان حالته الصحية سيئة وصعبة للغاية، غسان لا يستجيب للعلاج، لإن لديه نقص في الاوكسجين، ونزيف في الرئتين”، فلم تتمالكني نفسي وهزلت قواي وسرقني البكاء، لكنه هدأ من روعي وادخلني إلى غرفة غسان .

البسوني القبعة والكفوف والمريول الطبي وادخلوني لأجلس بجانبه، كنت اجلس بجانبه وابكي على وضعه، حدثته عن والده واخواته واصدقائه، طلبت منه ان يقوى على المرض فهناك من يحبك وينتظر عودتك، كان يمسك بيدي يضعها تارة على قلبه وأخرى على رئتيه.

كنت استدعي له طوال الوقت، وجلبت القرآن وتلوت عليه القرآن، وانا اتلو القرآن كان يردد لي قائلاً:”انا بحبك ياما”، جعلني ابكي بطريقة غريبة وكأنني افتقدته فعلاً، وخرجت مسرعة لأغسل وجهي واعود مرة أخرى.

عندما عدت وجدت الأطباء يركبون له جهاز التنفس الاصطناعي، وكان قد نبهني الطبيب بان نهاية غسان ستكون بجهاز التنفس الاصطناعي.

خرجت من المشفى متوجهة إلى بيت عمه لأعزيهم في ابنهم توفي قبل غسان بأسبوع، وصلت هناك الثانية عشر ليلاً، ومن المفروض ان يأتي احدهم ليأخذنا إلى المشفى لنتطمئن على صحة غسان، لكن لم يأت احداً وكل عشر دقائق يقول لنا احدهم انتظروا عشرة أخرى.

في ذلك الوقت شعرت بأن هناك ما هو ليس خيراً لغسان، نعم شعرت بموته وكأنه امامي حينها، فجأة رأيت بيت عمه الأخر يدخل الى المنزل فأحتضنتني زوجة عمه، حينها لم اقل لها الا “غسان مات” فأجابت : ” وحدي الله واستهدي فيه كلنا على هالطريق الله يرحمه يا رب”.

نعم توفي غسان في فجر 10-11-2015، حيث فارقتنا روحه الطاهرة ذاهبة إلى خالقها حيث لا يوجد هناك لا مساومات ولا احتلال ولا حتى سلطة اوسلو، لا يوجد هناك سوى الرحمة والعدل والنقاء.

طلبنا نقل الجثة إلى الضفة الغربية لندفنه هناك في قريته حيث ناضل من اجل كرامتها وصونها من الاحتلال، كنا نعلم بان الجنازة تنتهي بسرعة لكننا وصلنا قبلها بساعات، السلطات الاردنية احتجزته لإسباب خفية والسلطات الاسرائيليه قلالات ان تعذبه في حياته وفي مماته فهو الذي ارعبها واخافها في فكرته، فلم يعلم الصهويني حتى اليوم بان الانسان يموت لكن الفكرة لا تموت، لم نستطيع جلبه الا في الساعه الثامنة الا ربع تقريباً ودفناه بعرس فهو الشهيد المناضل البطل الذي لا تحتمل ما احتمله جبال ومع ذلك لم يرضخ ولم ينكسر يوماً.

التعليقات: 8

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *