أخبار

من لبنان – لا مكان للبؤس في طريق أحلامنا

مزنة الزهوري

في لبنان، التقيتها عند زيارتي مدرسة الطلياني التي تقع وسط المخيمات في منطقة برّ الياس خلال شهر آذار2016م، لأصوّر مشاهداً من فيلمي “سنة واحدة إضافية” الذي يتحدث عن أهميّة التعليم للفتيات على مستوى العالم، والفرق الإيجابي سواء على المستوى (الصحي، الاجتماعي، السياسي، والاقتصادي) الذي تُحدثه كلّ سنة إضافية للفتيات في المدارس، إذا حصلن على حقهن في التعليم.

يدخل أهالي التلاميذ بتتابع إليها للسؤال عن أطفالهم، ويزرنها أمهاتهم بكثرة في مكتبها، للحصول على إرشادات سواء في التعليم او غيره.

لا تمكث خلف طاولتها وتنجز أعمالها فحسب، بل تتنّقل بالتناوب لتراقب وتتابع الدروس المعطاة لتلاميذها داخل صفوفهم، وتعمل دائماً على تحسين جودة التعليم الذي يتلقونه، وأساليب المدرسين الذين يشكلون فريقاً حقيقياً معها.

كلّ ركنٍ في المدرسة نظيف، مرتب، الجداريّات تملأ حيطان الصفوف المصنوعة من خشب، الأزهار تموضعت وسط الباحة وفي الزوايا، مزروعة في إطارات السيارات التالفة الملونة، وفي الزجاجات البلاستيكية المُعاد تدويرها.

لم يقتصر دور آمنة الزين على المديرة والمعلمة في هذه المدرسة؛ بل كانت الأمّ والأخت والمربيّة التي ينهل منها كلّ مَن عرفها هنا. هي أمّ لخمسة أولاد، شاءت ظروف الحرب واللجوء أن تفرّق بينها وبين أولادها.

ففي 2012 م هربت هي وأطفالها إلى أقاربهم في لبنان، بعد اشتداد القصف على مدينتها القصير، على أمل العودة بعد أسبوعٍ لكن الرحلة امتدّت أشهراً وسنوات.

ليس من السهل على أمّ ومعلمة، أن تمشي بعد أن أفنت نفسها لتربي الأجيال. بعد أن أنشأت روضة الإحسان في مدينتها، بَنَتْها بشقّ الانفس، كانت شغلها الشاغل في التحضير والتخطيط والتنظيم، لمدّة ثمان سنوات قبل 2011م. إلى أن دمّرتها نيران القصف بأسلحة النظام المنهمرة على المدينة بعد ذلك الوقت.

ورغم انهيار الحُلم الأول حينها، لكنّها لم تيأس!

استطاعت بعد لجوئها إلى لبنان بأشهر، أن ترمّم ذاتها وتنطلق مع صديقاتها؛ لينجزن إحصاءاً عن جميع الأطفال السوريّين اللاجئين خارج المدارس في البقاع، ليجدن أن معظم الأطفال بلا تعليم، التشرد والفقر يطغى على الوضع.

قدّمن دراستهن للبلدية التي بدورها قبلت آنذاك جزءاً من الاطفال في المدارس الرسمية اللبنانية، ولم تستطع تأمين المدارس لجميع الأطفال.

لكن مع وجود منظمات لبنانية وسورية محليّة، بدأ العمل على ترميم الوضع وتلبية الاحتياجات في هذا الملف.

تطوعت آمنة مع العديد من تلك المنظّمات لبناء جيل عانى الأمرّين، ولم يكن من السهل عليها إدارة مدرسة تضمّ أطفالاً من مختلف المناطق السورية. لكلّ طفلٍ قصّة مع الحرب أثرّت على نفسيتِه وشخصيته وتفكيره، جميعُهم قد انقطع عن التعليم لسنوات.

 كما عملتْ جاهدةً لتطوير ذاتها، بالخضوع لتدريبات ودورات في الدّعم النّفسي، وامتلاك أدوات التعليم النشط والتعليم مع اللعب، لتتمكن من التفاعل بشكل جيد مع مختلف حالات الأطفال.

حظيت بزيارة إحدى المنظمات الدولية لمدرستها، شاهدوا ما قامت به؛ فدعوها للمشاركة بيوم اللاجئ العالمي في حزيران 2016م بإسبانيا، للحديث عن وضع اللاجئين المعيشي والتعليمي من خلاله.

في الخريف من ذات العام، حصلت على منحة دراسية لتحقق حلمها القديم، وبدأت في الجامعة اللبنانية الدولية بدراسة الدبلوم في التأهيل التربوي وهي في سنّ الخمسين. كلّ مادة تتعلمها في الجامعة، تمنحها الطاقة أنّها ستستطيع إيصال الخبرات التي ملكتها لمعلمين ومعلمات بطريقة أفضل.

منذ السابعة والنصف صباحاً تشرق بمدرستها، وعند الرابعة تغادرها إلى الجامعة، حتى السابعة مساءاً. لتعود إلى السوق تؤمن حاجيات المنزل، تدخل وتباشر مسؤوليات الأمومة مع أولادها، لتكون الأمّ والأب بآن واحد، بعد هجرة زوجها إلى أوربا محاولاً البحث عن وضع أفضل لأسرته.

في تلك الأثناء، شُغِفَت آمنة بصوت مئة وخمسين طفلاً يعيشون في المخيمات، يخرج صوتهم بترنيمة واحدة مميزة منسجمة، مما حفزّها لتجرّب التدرُّب على قائد الكورال مع مجموعة من الصبايا والشباب. جالت هذه الفرقة معظم أرجاء لبنان بعد ستة أشهر من التدريب، لينشروا المحبة والفرح. دفعتها هذه التجربة للتفكير بإنشاء كورال ضمن مدرسة الطلياني.

في الربيع المنصرم تركت في لبنان حفيدتيها وثلاثة من أبنائها، وغادرت إلى ألمانيا مع اثنين من أولادها، بعد أن تدهورت حالتها الصحيّة إثر التعب والضغط الشديد، لتقيم منذ أشهر في بلدة ألمانيّة صغيرة، تحتضن عشر عائلات سوريّة.

أصيبت بالإحباط المطلق في الشهرين الأول والثاني من وجودها في ألمانيا. انتابها الندم لأنّها تركت الأطفال والعمل معهم في مخيمات لبنان، وهم بأشدّ الحاجة لوجودها. لا يمكنها نسيان أجواء الضغط والعمل التي اعتادتها، باتت يومياً  تقلّب صورهم وذكرياتها معهم.

تعتبر آمنة اللغة العائق الأول في تحقيق أحلامها مع الأطفال والسعي لأجلهم الآن. لكنّها لم تستسلم ولأنها تؤمن بتطوير ذاتها لأجل حلمها مع الأطفال والتعليم، نفضت غبار البؤس عن رؤيتها، نهضت مجدداً، مع اكتشافها أنّ الأطفال السوريين في بلدتها لايعرفون شيئاً عن اللغة العربية ولا وطنهم سورية.

استعدّت آمنة للتخطيط والتنظيم مرّة ثانية، واستقطبت الأطفال في البلدة لـ تعلمهم اللغة العربية، العادات والتراث السوري في منزلها. تشرح لهم أصولهم على خارطة سورية، و أسماء مدنهم وميزاتها، حاضرها وماضيها ،  وكلّ ذلك عن طريق الأنشطة.

لم تخضع للمرض والغربة واللجوء في أوروبا بعد لبنان، ولم تستكن لأعباء اللغة والسنّ المتقدم ومسؤوليات المنزل.

 أطلقَت عنان حُلمها في ألمانيا حالياً، علّها زهرةُ إحسانٍ ستمنحها الولادة  عمّا قريب لإعادة إعمار روضتها في القصير، وبناء أجيال سورية في كلّ بقعة.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *