أخبار

الطيران إلى القبلة

فارس الذهبي

 

ما هي التداعيات النفسية تلك التي عصفت برأس ذلك الشاب المغاربي ،حينما وقف في أقدس نقطة بالنسبة للمسلمين في العالم ،وقرر أن ينهي حياته هناك ، هو مشهد سوريالي عنيف ،يوازي مشهد حز بؤبؤ العين بالشفرة  لبونيويل في فيلمه ( كلب أندلسي ) ،فالرجل الذي دخل السعودية بتأشيرة عمرة ، هو رجل ملتحي فرنسي الجنسية من أصول مغاربية ، قرر وفي لحظة اشراق أو ربما اعتام، غريبة قد تكون ، وقد تكون من ناحية أخرى مدهشة ..قرر أن يطلق صرخة احتجاج مدوية ، غير اعتيادية في أقدس نقطة بالنسبة له وبالنسبة لآلاف ملايين المسلمين في العالم ، وفي الحرم المكي هناك ، حلق نحو القبلة ،التي يتجه إليها كل المصليين في العالم.

من عادة المنتحرين أن يجدو نقطة عالية يلقون بأنفسهم منها ،مثل ناطحة سحاب أو جسر فوق نهر أو حافة جبل أو صخرة ، وأغلب هؤلاء المنتحرون ،حسب القراءات النفسية يعملون إلى لفت الأنظار لفعلتهم هذه ، وكما لو أنها آخر فعل ممكن لهم أن يختاروه ، في ظل تجاهل مدو ،ومرعب، لباقي أفعالهم كلها و حتى لكينونتهم على الاطلاق ،هو فعل مشابه لركض مشجع أثناء مباراة نهائية لكرة القدم ،أو تعري فتيات أمام مؤتمر قمة لرؤساء العالم ،أو اصدار صوت في قاعة لحرم جامعي ،ولكن هذه المرة كان الفعل أكبر ثمناً .

هل كان منتحر الحرم مؤمناً  أصيب بحالة فشل من الايمان ، أم كان ملحداً قرر أن يقوم بفعل جديد ومثير في عالم الانتحار ،أم هو مريض نفسي أصيب بحالة هلع من ضخامة وعظمة مايراه في الحرم المكي مقارنة بصغر حجمه كمتعبد ،فقرر أن يقدم نفسه كأضحية في هذا المعبد الهائل الحجم الواضح الشامخ بقوة وبدلالة لا تحيد عن أعين المتتبعين على حضور الإله القوي ،فأحس بدنو قامته و حجمه فتفاقمت لديه عقد النقص فقرر المواجهة ،كما هو حال الفراشة التي ترمي بنفسها إلى النار فتحترق .

هو مشهد غريب و كئيب ،حينما تشاهد رجلاً يرتدي الأسود يهوي في خلفية من بياض رخامي و بياض ارتداه المعتمرون ، يهوي من سطح الحرم إلى أرضه ،يقول من كان واقفاً هناك : هو كان متلبساً بشيطان ،ويقول أخرون: لقد حمانا الرب من شر من أراد أذية نفسه و أذيتنا ،فلو نزل الرجل فوق عشرة أشخاص لقتلهم معه ،ويبقى السؤال ما هي مصادفة أن يرتدي رجل معتمر في الحرم المكي ثياباً سوداء ،هل هو ترميز منه وتصريح باختلافه عن البقية ، هل هو شيطان سكن في جسد شاب يائس،أم  أنه أراد تمييز نفسه لونياً ومن ثم حركياً ،أم أنها مصادفات الحياة التي تحدث في كل زمان ومكان .

بغض النظر عما فعله هذا الرجل في ذلك المكان والزمان ، وبغض النظر عن تفسيراته ،لكننا لا نستطيع أن ننكر أن فعلته تلك ما هي إلا رسالة تمرد واحتجاج من ذرة بشرية رفضت أن تكمل دورانها حسبما يفعل الآلاف في الأسفل في بلاط الحرم ، هو رجل بحجم ذرة وقف ليطير معاكساً الملايين في طاحون رمزي بشري عملاق ،رجل قرر ألا يكمل تلك المسيرة وأن يحرق نفسه أمام رمزية الدين كاملة ،تماماً كما فعل البوعزيزي في تونس ،وفعله ذاك حتماً  ليس موجهاً إلى السعودية كدولة وكيان ،وإنما فعل موجه إلى تاريخ من سيرورة البشرية ، أو إلى قرون من الروتينية الحركة ،ربما أطلق  هذا الرجل قبل أن يقفز الشهادتين كأي مسلم يواجه الموت ،وربما العكس .

ولكن ما هو أكيد بشكل قاطع ،هو يأس ذلك الرجل من الاحباط المطبق في هذه الحياة ، من انسداد الأفق ،وانعدام السبل ،وتلكم الضغوط التي يرزح تحتها الانسان العربي ،احباط نفسي واقتصادي وسياسي واجتماعي ..احباط ربما يجعل الانسان يرغب في الطيران بعيداً حتى لو كان إلى الأسفل .

في النهاية يبقى  ما فعله ذلك الرجل هو صلاته الأخيرة ،فهو اعتلى سطح الحرم المكي المقدس ،و نظر نحو الكعبة ،وقرر أن يصلي بطريقته وفي قرارة قلبه ،أن يعرج بروحه و بجسده إليها ،نحو مركز العالم لدى المسلمين ، نحو قدس الأقداس لديهم ، نحو سرة الدنيا وفي ثقب العالم الاسلامي الأسود ألقى بنفسه ..ليجد ربما الراحة ،ولربما حسب أخرين ليجد النار والجحيم والويل والثبور ، أو ربما ليجد ذلك العدم الذي كسر عظامه على رخام الحرم الأبيض.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *