أخبار

بدا هذا الصباح مُختلفاً

همبرفان كوسه _ صحفي كُردي

                                                                                      #قامشلو

  كبرتُ بغيابك …

   كبرتُ كــ مطرٍ هرم بانتظار عاشق يدق نافذة آنثاه،

   عاشقٌ شهيد منذ شتاء ،نافذة مغلقة منذ حرب ،

آنثى تحت الأرض منذ ثلاثة أيام

    الشاعرة خوناف ايوب

صَوبَ السَماء رَفعَت يَدها وَهي تَلبَسُ عَباءة وَردية اللَون ، أجمَلَ ما يَكونُ اللَون وردياً ، هُناكَ في الصَباح وهي تَهدو خُطاها إلى الأماكِن الخَلابة لِفَقير “أمام بابِ فِرنٍ مزدَحِم الألم” بابتسامةٍ بارِدة ويدٍ صَغيرة مُمتَدة بَين رؤوس سُرِقُ مِن جَسدها حَتى الشَعر وباتَ شَمس الرَبُ المُخيفة يُلامِسها ويَضربُها حَتى بَعدَ حين! لِتَطلُبَ مِن الفَران خُبزاً عَلها تَصِل إلى مَنزِلها قَبل المَوت .

بَينَ خَديها الصغيرتين بدا هُناكَ فَنانٌ قَصير يَنحَتُ ابتسامةٌ لَطيفة  بِريشتِه الرَشيقة التي لا تَكادُ أن تَنحَت شَيء حَتى يَصلِ غُبار كَثيف أسود اللونَ يَمحي كُل شَيء ، الابتسامةُ غَيرُ مُنتظمة ، الألمُ رُكامُ حُزنٍ شَديد ، لعَلهُ مَنطِقاً هُنا حَيثٌ نَرقٌد في غُرفةِ صَفِ كَبير ، كَبيرٌ جِداً كَعصى المُراقِب حينَ يضرُب يدانا ونَحنُ نُحاوِلُ أن نغُشَ قَليلاً لِلحصولِ على يَومٍ إضافي في الحَياة!

ثكالى نَحنُ في مَدينَتِنا هكذا كانَت تُشير وجوهُ الناس وَهي تَحمِلُ خُبزاً ساخناً وتَسيرُ بِبطء إلى مَنزِلها ، إمرأةٌ كانَت تنحبُ في زاويةٍ دُكانٍ صَغير تواسيها أخرى بِصوتِها الشَّجي وَهي تَجعَلُ مِن النُواح طَبقة موسيقية حَزينة ، بدأت تُسرِعُ في خَطواتِها وباتَت تُريدُ الخُروجَ مِن هُناك كَـلصٍّ يُريدُ أن يَسرُق الحَياة ، الشَمسُ سارعَتُ في الخُروجِ أيضاُ مَع خُطى قَدميها لِتَضرُبَ جَبينها دونَ رَحمة عَلها تَتأخر أكثر وأكثر ولا تَصِل هُناك حَيث يَنتَظرُها وَطنٌ أخر … حُزنُ اخر .. ألمٌ اخر مَدى المَوت

وَقَع الخُبزُ مِن يَديها فَوق بِركَةٍ دَم ، قَفزاتٌ قَصيرة تُبعِدها عَن البِركة في زَحمة البَشر ، بَدأ يُراوِدُ وَجهها مَشاهِدُ إيمائية وكأنها مارسَت التَمثيل في الحَياة مُنذُ حَياة ، يَداها كانَتا تَغفوان في كُل حين مَع جَسدِها الرَخّو الذي يَوَدُ أن يُلامِسُ الأرض فالعَينُ إن كانت مُلازِمةً للألم يكادُ أن يُعاشَ بأمل عَكسي, عِندما تَقترِب العُيون النابِعةُ للدَم ،فالعَينُ تُشاهِدُ كُل شيء وريحُ الصَوتِ يَغيبُ للحَظة ، حَجرٌ يَبكي في ثَنايا جَسدِ طِفل أُرغِمَ عَلى مُشاهَدة الَرب

عَلى حَجرٍ مَكسور الخاطِر ،جَلست بِتجاعِيدِ شَيخوخةٍ مُتَوجِسة ، استَلقَت عَلى ظَهرها قَليلاً ورَفعَت حاجِبها نَحو الله وكأنها تُشاهِدهُ ، كانَت تُحدِثهُ بِصَوتِها الشَجّي مِن شِفاه باتَت تَشبُه وادٍ صَغير تَشقَق جِدارُه وغارَت عَليِه غُبارٌ كَثِيف مِن ألم.

فَجأة خَرجَ الألم بِشدة ” يا الله أبنائي الأربعة تَحتَ هذا الرُكام ، خُذ ثَلاث مِنهُم واترك واحِداً يُداعِبُ وَجعي” ، العُيونُ الثَملة حَولَها كانَت تُغرِدُ عَلى دُموعٌ تَدعي لَها وتَصرِخُ في وَجهِ الَرب ، تَركَعُ لِتَحقق مُرادُها!

بَدا هذا الصَباحُ مُختلِفاً ، تَبحثُ هُناك في زَحمَة البَشر عَن أنسِجة تَربطُ الحِكاية التي كانَت تَسرُدها كُل مَساء في كُل شِتاء أمام مِدفَأة نارِ حَطب ، وكأن المَشهَد يَتشابَكُ هُنا المِدفأة لَم تَعُد تُميزُ بَين الحَطبِ والبَشر فكِلاهُما وقودٌ تَربِطُ ارواحاً معاً !

وجَدتْ احدُهم بِقُربِها ، لَم تُحرك ساكِناً ، حجَرٌ يَبكي في ثَنايا جَسدِ طَفلِها ينتَظِرُ أرواحاً تحت الأنقاض ، كانَت العَينُ تَفتَح دَفاتِراً مِن أسرارٍ باتَت على شَكلِ مُدن مُهدمة ، عادَة تنتهي الحِكاية بمأساة ، مِثل كُل شيء في وطَنِ الحُزن ،ملأت الحَقائِب بِدهاليز مِن وَجعَ وحَملت واحِداً مِنهم إلى عَربة الإسعاف المَركونة جانِباً لِتُدمِن عَلى صَوتِه وعطرِه, عَلى حُبِه وعلى أمِه!

لّوَحت مودّعة ثلاث أخَرين تكَهَنت أنَهم ما زَالوا يَرقِدون جانِب المَوت تَحت أقدام تَدمَع مِن الأنقاض، آه يا لقسوة القدر ، الحزن هكذا فَهِمتُ أنا مِن ضِيق نَفسها وهي تُزيلُ باب الإسعاف القاسِي ، تَجدُ صعوبة وهَي على أعتَابِ فراق الروح ولا يَبقى مِنه سِوى زَوبعة صَوت سيئة الصيت تُمزِق الأرض بِكُل جَبروتِها وتَضرِب بِرمشِها غباء الطَبيعة لا تُريدُ أن تَفيق على زلزلة رَحيله، غُمامةٌ بيضاء كانَت تُشاهِدها أمام عَينها أشبَه بِرجُل يَضربها على رأسِها ويَقول بِصوتٍ يُشبه صَوت مَن كانت تَركَعُ لهُ على سُجادة سَوداء : ”  هَل وجَدتِ أحداً مِنهم مَيتاً ، أنا لَم استَقبل أحداً مِنهم !؟ “

تِلك الهَمسات كانَت أشبَه بِشريط مُسجل على كاسيت قَديم يَحتاجُ إلى مُساعدة مِن يَد بَشري ليَعمل ويُضرب الأذان بأغان جَميلة ، استعادَت القَليل مِن وجهِها الذي باتَ يُشبه لوحةً تشكيلية، كانت ليَديها الجُزء الأكبَر مِن إنجازِه ، خَدشٌ في الجَبين واثنانِ على الخَد، واحِدٌ على الشِفاه لِتصل رِسالة ألم بأربع أولاد!

كانَ هذا المَشهَدُ غَريباً ، جالَست بابَ غُرفة العَمليات وهَي تحَمِل حَجراً مِن دم، حجراً كانَ مَوجوداً في خاصِرة طفلِها، صَغير بِحجم ابنِها ، مِن بِداية الَممر أصواتٌ غير مَألوفة تُسمَع، أصواتُ لأقدامِ تَركُض وَهي تَدمع ، الصَوتُ يَمتَزِج بَين الكَبيرُ والصَغير، لَم يَكُن يُراودها خَيال أنهم بَقايا قَلبِها ومَن وَهبتها للَرب ليَترك لها مَن هو يُنازِع الحَياة في الغرفة ، لَم يَكُن الصَوت يَصلها بِوضوح ولا حَتى صدى أولادها وهم يَقِفون أمامها لِتعودَ إلى واقِعٍ أجمَل مِن صَدمَتها الكاذِبة الَتي كانَت تصرخُ عالياً ولا يُسمَعُ صَوتها ولا حَتى عِندما كانَت تَقول أبكيك فأبكِيك ! ، لِمَ لَمْ تَقتَنع إن أولادها الثَلاث كانوا قَد غادَروا المَنزِل إلى المَدرسة بِدون إذنها وتَركوا صَغيرها في المَنزل ؟

فَهم عادة لا يَخرجون عَن طاعَتها إلا إن كان القَدرُ يَود لها أن يَكونوا أحياءً، ابتَسمَتْ قليلاً عِندما خَرج الطَبيب أيضاً وقال لها إن الطِفل الرابع أيضاً على قيد الحياة ، تذكرت كيف هاجمت الغبار في الصباح وكيف صرخت وهي تحاول قتل الدماء المباحة في مدينةٍ كانت تعرف الأحمر بحضرة العشاق فقط، تذكرت كيف كانَت تُشبه زُجاجة تحَطَمت بِهدوء وتَناثر الألم مِنها كشظايا التَفجير جَرحَت نَفسها ومَن كان حَولها ،

شَظايا انتَشرت في الأمكِنة المأهولة بالموت، شظايا وَصلَت إلى الله واستجابَ لَها مِن شِدة الألم، استجاَب لِيُذكِّر الأرض, أنه حَتى الألم يَنتهي بِسعادة ، حين يكون حجم الألم بحجم الحياة، تلك الحياة التي تنفست خيبة الرحيل تحت جدران الإسمنت.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *