أخبار

اسبريسو

عروة الأحمد

والفرقُ ما بيننا؛ كلّ الفرق أنني لا أهوى جمع البشر كالطوابع، وإنما أودّع أغلبهم، وأُبقي على القلّة التي أستطيعُ أن أتعرّى أمامها كطفلٍ لا يأبه للحروب، والنخاسة، والدّجل، وتجارة الأعضاء، والتبغ، والمحروقات، والكحول، والسلاح.

قلتِ لكِ بأني لا أحلمُ، والحقيقةُ أني كذبت؛ فأنا أكثر من يحلمُ، ولكن حين أكون مستيقظاً؛ أما أثناء النوم فلا أرى سيناريوهاتٍ، أو قصص؛ أرى صوراً فقط.

طلبتِ مني أن أقوم بتسجيلِ ما أراه فور استيقاظي ظنّاً منكِ بأني أنسى ما حلمت به.

في اليوم الأوّل رأيتُ عينيكِ، ودوّنتُ ذلك على الدفتر الكحليّ، ِ، وفي الثاني رأيتُ طفلاً لا أعرفه، وعينيكِ، وفي الخامس رأيتُ صورةَ وجهي باكياً، وعينيكِ، وفي اليوم المئة رأيتُ عينيكِ، ثمّ لم يعد هناك جدوى من التدوين عن عينيكِ.

في انتظاركِ أقيسُ المدّة بأقداح الاسبريسو، وأمني النفس ألا يفقد دماغي تلذذه بأثر الكافيين الذي يتسلّل إلى تجاعيده خلسةً، ويملأ زوايا الجمجمة.

لا أعرفُ ماذا أريدُ منكِ؛ هذا جوابي على سؤالكِ، ولا أرهقُ نفسي بالبحث عن أجوبةٍ لهذا النوع من الأسئلةِ الكبيرة الفارغة؛ كلّ ما أعرفه أنني أكونُ كما أودّ حين تتواجدين، وأنّ ابتسامتكِ الحزينةَ تُلوّن هذا العدم.

لستُ أباكِ؛ أنا الطفل الذي يخبّئ أمّه في عينيكِ من خطرِ خيبةٍ مُحتَمَل.

مُشاكسٌ لا يجيد اللعبِ تحت السرير؛ وقحٌ يُتقنُ سكب النبيذ على جلدكِ، وامتصاصه من قعرِ مسامكِ؛ لكنّهُ يخجلُ من تلاقي العيون إذا تجاوز ستّة ثوانٍ؛ لأنه يهربُ من حقيقة الألم في عيون البشر.
مخبولٌ يظنُّ أنه سيحميكِ من خطرِ الحياة، وكآبةِ الموت؛ ذلك الأبله الذي يحاولُ أن يتماهى مع لهوكِ الخطر.

عودي واسقني كأساً آخر من الاسبربسو؛ أريدُ أن أكونَ يقظاً حين عودتكِ، أو خذي رائحتكِ العالقة في كتفي أثر عناقنا الأخير.

هذه ليست حياةً يا صديقتي؛ هذه رحلةٌ سريعةٌ لا تتيحُ لي المجال في قول أيّ شيءٍ لكِ؛ أريد أن أعي بأني أتنفّس!

لا أريدُ أن أبكي الآن؛ لا وقت أيضاً للبكاء، ولا وقتَ للتجربة من جديد.

لستُ سعيداً، ولستُ بحزينٍ؛ ليس فراقاً ما نحنُ فيه، ولسنا معاً؛ لستُ أباكِ، ولستِ أمّي، وكلّ ما أريده الآن أن أمشي بقربكِ لمدّة خمس دقائق في الشارع دون التفوّه بأية كلمة، ودون النظر إليك حتى.

كلّ ما أودّه الآن هو أن أغمضَ عينيَّ بقربكِ؛ هكذا أراكِ أفضل، أن أنطق بأصابعي؛ هكذا أتكلّم مع حواسكِ.

لا أقولُ أنك تحتلين كامل تفكيري؛ للآخرين دائماً متسع من الذاكرة، ولكنك حين تحضرين يتبدّد كلّ شيء.

لاذعٌ طعم ملحكِ كالقهوة؛ كاحتراق التبغ بين الشفتين؛ كمرارة الشوكولا؛ كالأثر الذي تتركه حنجرة همايون شجريان في داخلي.

عودي الآن، واسقني كأس اسبريسو آخر؛ لا أريد أن أغفو بعد أن علمتُ بوجودكِ.

عودي كي يدرك السنّة والعلويون أنهم شركاء في لعبة “تريكس” سيأكلون فيها شيخ الكوبة، وسيُولد من فجرِ عينيكِ صُبحٌ جديد.

التعليقات: 1

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *