أخبار

كاوا الحداد يجوب أهازيج ليلة عيدنا

لوران ليلي- صحافيّ كرديَّ

لا تكادْ أن تخلو جلسةً لعائلةٍ كُرديَّة ما قبل عيد نوروز (اليوم الجديد) في مدينة قامشلو دون أن تمرّ بسردٍ لقصة الأسطورة الكُرديَّة كاوا الحداد، الذي أنهى ظُلماً عانى منه الكُرد على يد ملكٍ فارسيَّ يُدعى أزديهاك. ولا يخلو حديث كبار السن من الافتخار والاعتزاز بالقِدم الكُرديَّ المناضل ضد ملوكٍ طواغيت.

تُشيرُ القصة الكُرديَّة الشفهيَّة، التي كان كبار السن يلقنوننا إياها مساء كلَّ عيد. إلى أنَّ أزديهاك الفارسي كان يأكل أدمغة أطفال الكُرد في الجبال، بعد أصابته بمرضٍ غير معروف ولا يُصابُ به أحد. فثار عليه كاوا وأخرون، وأستطاع أن يقتله، وكان قد أخبر أقربائه أنَّه إذا قتل أزديهاك سيُشعل ناراً على قمة الجبل. وهذا ما حدث بالفعل وأعلن انتصار الحقّ على الباطل. وجاب بنصره في كلَّ الجبال الكُرديَّة حتى بات رمزاً كُرديَّاً ومصدراً للفخر والاعتزاز، حتى أنَّها ترمز إلى العتاق من العبوديَّة.

كُنا. في الليلة السابقة للعيد، نُطلق أهازيج الفرح، ونجمع إطارات السيارات المستعملة قبل الاحتفال بشهر كامل، وكلًّما استطعنا الحصول على واحدةٍ منها، نعتبره نصراً لنا. ونشعل النيرات في الأحياء.  وأعيننا تنتظر دوريات الشُرطة وهي تُهاجم كلَّ من يُقدم على الاحتفال في الليل.

أميَّ، التي لم التقيها منذ سنوات وأنا ابنها الوحيد من الشباب. كانت مع إخوتيَّ تنشغل بتجهيز اللباس الكُرديَّ وتختار الأغانيَّ الكُرديَّة التي ترمز إلى العيد. حتى أنَّها كانت تُحضر موائد الطعام لنجتمع في ليلتها سويَّة.

في السنوات الأخيرة الماضيَّة، أطفت الحرب بظلالها على نوروز، حتى بتنا نشاهد أعياداً لا تشبهنا، واحتفالاً غير معتادون عليه. تجمعات حزبيَّة، احتفالات سياسيَّة، جلسات تخرج عن تقاليدنا التي افتخرنا بها. حلَّ الخراب بهذا الاحتفال أيضاً، ولم يعد يُرينا الحياة التي كُنا ننتظره منها. ولا زلنا نتابع خلافاتنا السياسيَّة وحلّها، كيّ نعود كما احتفلنا. وكُسرت رؤوسنا بالحجارة في كلَّ عودة من الاحتفال على يد من يودّ لنا أن نرحل.

قبل أن أنام يوم أمس كتبت لنفسيَّ في دفتر ذاكرتيَّ الصغير. الذي أعلّقه فوق رأسي، وأنشر عليه حبل غسيليَّ الذي لم يجف بعد من الدموع:

ثمة شيءٌ ما يقودك إلى مدينتك بعد أن غُرِبت عنها. الأعيادُ الّتي تمرّ ابتهاجاً بالنصر على طواغيت جابت القتل والدم على أدمغة شعوب طاقت بصدرها نحو حُريَّة لا ملقى لها. الجبال في هذا المكان لا تعرفك.

على مقاعدٍ متكئة الظلّ كان الكُرد يناجون السماء، لتُردِم لهم رصاص الموت، يُنازع زيَّه الكُرديَّ، حين يُصادفٌ جُنديَّاً ما. كلَّ البلاد الّتي تحتفل به الربيع تنذرك بالخراب؛ لا شيء يقود لذاكرة الكُرديَّ وهو يمضغُ لقمته الأخيرة قبل الفرار إلى البيت، ليختبئ بحشوة صوته. يهرب من جُرمه في سوريَّا حينما فكّر يوماً أن يحتفل بعيده.

أعياد النوروز، أي اليوم الجديد باللغة العربيَّة، تعنيَّ للكُرديَّ الموت بالرصاص، الاعتقال، النفيَّ، الخيانة العظمى، المساس بوحدة الدولة. كانت صداها تصل إلى الجبال وتظلَّ بنفسها على صدّف البحر. وكأنَّ هذا اليوم يختبئ صوته من شبك صياده. يلهثُ بقاياه من زنازين الدولة، بجوار موته الحتميَّ وتابوته المصنوع من الحديد

في الليلة الماضية، نمتُ والدموع تترقرق في عيني. كُنتُ أناجي أميَّ، وأخاطر أبيَّ. أساله: ما الذي يدور في مخيلتك. لماذا تفتح شباك الذاكرة الآن. ثمة شوق لـ لحظات لم تختفي منها علامات الموت يومّاً، وكأنَّ مؤقت الموت صفتنا الثابتة هُنا، فنبحث عن أقلَّ توقيت للموت، وأكثرها متعةً

هذا العام من نوروزه، أتذكّر، أنَّنا سنحتفل نازحون عن بلادنا. محتفلين في خيمٍ تكتظ بالألم، سيُقيم الموتى قصائد رثاء كاوا، ويشعلون النيران بعيداً عن بيوتهم، رغم ذلك. سيتذكر الكُرديَّ أنَّ معانيَّ الصمود، البقاء، القضيَّة، الأمل، الخلاص، نهايَّة العبوديَّة، تبدأ من نوروز وتنتهيَّ بها. ليعود كاوا الحداد ويلفّ في شوارع المدن، ويخلص أرواحنا من الشرّ الذي يلاحق مصيرنا ما حيينا.

 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *