أخبار

تجليات لون.. ووطن

سماح أبو بكر – باريس – ” خاص أنا قصة إنسان “

قهران وجرحان.. وصندوق مليء بالفرح المستلب كما مساحة من أمل.. كل ذلك حمله من الوطن الثاني سوريا، وقبله ما حمل الوالدان من الوطن الأول فلسطين.. اتكأ على الحلم ومضى إلى المنفى.. هيسم شملوني فنان تشكيلي فلسطيني ارتضى اللجوء مرتين .. لكنه ن رفض أن يهزم الطغاة أحلامه بالإسلام.. received_949044125151150أتى وفي طيات قلبه آﻻم  شعبين لم يقهرهما الجبروت فجبلت روحه بفلسطين وسوريا معا”.. الفنان ابن الثامنة والأربعين , ترجم ما عايشه من أوجاع الاستبداد على هيئة لوحات تلد اللون والشكل زفرة يتنفسها في  كل لحظة حسب واقعه رغم مرارته- لم يرض إسقاط السلام من عنوانه..

(تجليات.. لون على حرف.. لون على تاريخ) عنوان معرضه المقام في فرنسا حاليا” و الذي كان لأنا إنسان لقاء معه على هامش المعرض لنرصد معه رحلة الفنان الإنسان بعد أن ترك ما أنجزه في سوريا وقدم إلى فرنسا بعد الثورة..
حدثنا عن محطاتك الفنية قبل وصولك إلى فرنسا..
received_949044738484422بداية أنا لم أعرف في نفسي موهبة أو ميولا”  للفن التشكيلي أو الرسم في صغري.. فقد كنت أمضي مثل “بلدوزر” نحو طموحي لأكون مهندساً معمارياً وذلك لغرامي المبكر بالعلاقات الهندسية والتكوينات القابلة لأن تعطي أشكالاً أفسرها الآن بأنها قد تكون نوعا” من العمارة وفق مفهوم حداثي مبكر.. لكن شاءت الظروف بأن يتم اعتقالي “احترازياً” ولمدة ست سنوات لأسباب سياسية وكان عمري وقتها سبعة عشر عاما”.. بداية الميل إلى الرسم تفجرت في العام الثاني من اعتقالي وذلك لرغبة الكثير من المعتقلين القيام بتطريز أشكال ذات مدلولات وطنية على القمصان التي يرتدونها كنوع من التسلية وقتل الوقت.. حيث لم يكن مسموحا” لنا بأي شيء مما يرتبط بحياة البشر إلا المأكل والمشرب وبشروط سيئة.. حينها بدأت بالرسم “غرافيكياً ” على القمصان لمدة عامين، ثم جرى ترحيلنا بعد ثلاث سنوات ونصف إلى سجن “صيدنايا”.. حيث كانت الحياة فيه أفضل نسبيا” مقارنة بالأقبية السيئة في الأفرع الأمنية.. وهناك تعرفت بالفنان السوي “طلال أبو دان” الذي كان له الفضل الكبير في اكتشاف موهبتي وصقلها أكاديمياً ضمن الشروط البسيطة والمتاحة في المعتقل..

بعد خروجي من المعتقل بدأت أدأب على نفسي بالمعنى الأكاديمي الاحترافي وبدأت أشارك في المعارض.. وكان بحثي عن موضوعات تخص القضية الفلسطينية من حيث المكان والإنسان، فقد شكل المكان بالنسبة لي هاجساً وخاصة أني طردت من وطني قبل عقدين من ميلادي، ونظراً لتكويني الشخصي وإفراطي في حب المعرفة.. فإني الآن وبعد نظرة إلى الخلف أستطيع أن أقول بأنني كنت إنساناً تجريبياً من الطراز الرفيع.. وهذا بدا جلياً في   التنوع الكبير لملامح الأعمال التي قدمتها سابقاً ” .

بعد رحلة لجوئك الثاني ماذا قدمت من أعمال فنية على الصعيد الفردي أو كمشاركات جماعية؟
received_949045301817699منذ لحظة وصولي إلى فرنسا أدركت أنني أقف الآن  عند منعطف حاد.. فمرحلة فرنسا لا تشبه ما قبلها، وكنت أحاول الهروب من حالة الألم الداخلي العميق الذي نتج عما يحدث في سوريا.. ففي السنة الأولى من وجودي , شاركت بمعرضين جماعيين يخصان مدينتين على أطراف باريس “غريتس آرمينفيليه” و” أوزوار                وكانت هاتان المشاركتان أول احتكاك لي مع الفنانين الفرنسيين والجمهور الفرنسي.. والذي كان يجد في أعمالي شيئاً مختلفاً؛ ربما هم أحبوا أن يتعرفوا عليه ويكتشفوه.. ما أعطاني حافزاً قوياً وثقة عالية بأننا لو أدركنا قيمة الكنوز التي نمتلكها في داخلنا وتعاملنا معها كما يليق فإن العالم كله سيراها وفق التقدير والاحترام نفسه.. فبدأت أعمل على موضوعات أخرى في فرنسا وهي البحث تشكيلياً في الهوية التي تميزنا بالمعنى الثقافي والحضاري التاريخي, هذا قادني لاحقاً وفي العام ذاته للمشاركة بمعرضين في الولايات المتحدة اﻷمريكية (واشنطن – نيويورك).. كما شاركت لاحقاً بعد أن حصلت على مرسم مشترك مع فنان فرنسي في نوع من النشاط يسمى “الأبواب المفتوحة” وهو عبارة عن يوم تفتح فيها كل المراسم والمحترفات أمام الجمهور لمعرفة آخر نتاجات الفنانين الأخيرة.. وهاتان المشاركتان وخاصة الأخيرة التي وضعتني أمام الانطلاقة الحقيقية.. فمن هذه المشاركة أتت دعوتي للمشاركة في صالة “دافنشي” وهي صالة مهمة جداً وكانت لمدة أربع أيام حول الفن في الحياة اليومية .

حدثنا عن معرضك الحالي الذي يقام حاليا في فرنسا؟
received_949045501817679دأبت مدينة “سان بيير دي كوور” والتي لها توأمة مع مدينة الخليل الفلسطينية على إقامة فعاليات حول القضية الفلسطينية منذ حوالي خمسة عشر عاماً، ومن خلال صديق , تم التعارف بيني وبين المجلس البلدي لهذه المدينة والذين وجهوا لي الدعوة للمشاركة هذا العام بعد أن شاهدوا أعمالي.. وكانت ظروفي المادية صعبة جداً لكنني وقفت في تحد أمام ذاتي.. فالمكان عبارة عن رواق بطول أربعين متراً وعرض سبعة أمتار مقسم على أربع قاعات.. وهذا الفضاء يغري أي فنان.. لذا بدأت بالاستدانة وطلب المساعدة من أصدقائي الذين أوجه لهم شكري وامتناني.. أحضرت ما يلزم من مواد.. وعملت على معسكر فني كنت فيه أنا الضابط والجندي في آن واحد.. فكان المعدل الوسطي للعمل اليومي – وبشروط مناخية منها ما هو قاس- يصل للعشر ساعات يومياً.. وكانت الحصيلة بعد عسكرة ستة أشهر اثنين وثلاثين عملاً بأحجام متنوعة أصغرها 30× 40.. وأكبرهم 150×100.

والحمد لله أنا سعيد بالمستوى الذي تلقى فيه الجمهور هذا النتاج والتفاعل العام الي ولده هذا المعرض.

لم تركن إلى زاوية القهر بعد رحلة اللجوء.. كيف استثمرت ألم الغربة والمنفى ليحول إلى منجز وإبداع؟

لأني أنتمي إلى جرحين عميقين كما تحدثت في كلمتي الافتتاحية للمعرض.. هما جرحي الفلسطيني الذي لايزال ينزف بي منذ ثمانية وستين عاماً، والجرح الأكثر إيلاماً في سوريا.. ما شكل عندي حافزا” أكبر، فأنا الخارج من براثن الموت صرت الأكثر معرفة وإدراكا” لمعنى الحياة.. لذلك مضيت لما يليق بهذه الحياة من فرح، وهذا ليس تزييفاً للواقع، فأنا أنتمي إلى مجموعة البشر المحكومين بالأمل والذين يحبون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً. وأعتقد أن الهروب إلى حضن الفن والإبداع الدافئ كان سبيلي إلى الحياة، ولأعمل على توجيه رسالة واضحة الملامح عن عذابات أبناء شعبي السوري- الفلسطيني/ الفلسطيني – السوري.. ولأرفع مرآة الحقيقة عالياً في إدانة واضحة لمن استسلموا إلى بكائياتهم وندبهم في طقوس كربلائية شديدة السواد..

لذا بدأت في رحلة البحث في الهوية وفق عنوان يتوافق مع ما أود أن أقوله في رسائلي وهو “تجليات.. لون على حرف .. لون على تاريخ” فمن مضى للبحث في التاريخ عن ظلامية وجد ضالته في وصايا “ ابن  تيمية” ومن هم على شاكلته من وهابية مقيته.. أما من أتى للبحث عن التقدم والتطور والغد المشرق فسوف يجد في “الحسن ابن الهيثم”.. “الخوارزمي”.. “الواسطي” و” ابن رشد” عتبات للانطلاق لهذا الغد وذاك المستقبل..

كيف انعكست تجليات الثورة في أعمالك ؟

في الحقيقة مع بداية الحراك الشعبي في سوريا كنت أؤمن بأن للإبداع الدور المهم على صعيد الأغنية والملصق السياسي لما لهما من سهولة في إيصال الفكرة والوعي السلس للجماهير وللعالم المتضامن.. وهذا ناتج من خلال تجربتي واطلاعي على تجربة الثورة الفلسطينية التي وصلت ملصقاتها إلى العالم أجمع في وقت كانت البنادق الثورية تعد على أصابع اليدين.. لذلك تصديت لهذا الموضوع من خلال مجموعة من الأعمال التي كانت تدين قصف الأحياء المدنية بأشد آلات الحرب.. وكانت لوحاتي ترصد بشكل مباشر الأطفال في حالة اللعب في اللحظة التي يكون فيها الموت قادما” على شكل دبابات وطائرات وصواريخ.. أما حالة اللجوء فقد هربت بها إلى ما تم التعبير به في معرضي هذا من خلال الاختباء خلف اللون والإشراقات الواضحة في اللوحات،
فأنا لم أرد أن أبني خيمة للحنين وأبكي على أطلالها لأني مؤمن بأن حركة التاريخ تسير إلى الأمام ولا توجد أي قوة يمكن أن تودي بنا إلى الوراء إذا لم نرد ذلك.. ولا توجد قوة في الدنيا يمكن أن تعيد لنا من فقدنا من الشهداء ومن الأماكن والذكريات .

انكفأت على نفسك خلال الفترة الماضية لتخرج بما أنجزت.. كيف يمكن لمن عانى القهر ومرارة المنفى أن يوظف ألمه لفتح ثغرة للحياة في واقعه الجديد؟
الاستسلام  للقهر لن يزيد إلا في هزيمة المهزوم.. ولن يستطيع أن يرى شمساً تشرق كل صباح أو يسمع زقزقة العصافير.. من المهم للإنسان أن يعيد قراءة الواقع مع كل تحول.. فما بالك بمصاب كبير كالذي يحدث في بلادنا.. فهذا يقودنا لإعادة قراءة الواقع مراراً وتكراراً للوصول إلى أجوبة حقيقية تليق بمن ينتمي إلى أرض الأبجدية الأولى والأسطورة الأولى وبلاد الأنبياء والقديسين والصادقين والصالحين، وهذا بدوره يقتضي البحث عن أهداف تليق بهذا الانتماء وتليق بالحياة في آن.. وأنا على صعيدي الشخصي كان مرسمي صومعتي وبوابة الحياة.. وها أنا أمشيها واثق الخطى متحصناً بكل إرثي المعرفي وبانتمائي الإنساني أولاً وأخيراً.. وأنا أقول بأن من يملك تجربتنا في اللجوء الثاني يقف الآن أمام فرصة تاريخية في أن ينهل كل ما هو إيجابي من هذا المعين الجديد.. لينتج بعد زمن ليس بالبعيد الحالة الأرقى مما سلف ومما هو حالي.
الفنان شملوني طوع اللون والشكل والمساحة معا” ليمد عبر فنه جسرا” يركن فيه لوحاته وحزنه وحلمه.. كما أخذ من تجربة اللجوء ما يمكن أن يحفزه ليقيم مشروعه الخاص رغم شظف العيش واستلاب الحرب لبسمات كانت تعج بكل جميل ومشرق. ويصر من منفاه الفرنسي أن يتجلى وفنه برسالة تقول لأبناء جلدته عليكم بالجانب المشرق رغم علقم ما تكابدون.  ورسالة أخرى تقول للعالم: لسنا دعاة قتل.. إنما دعاة حق.. دعاة سلام وحرية.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *