أخبار

قيامة السوري الأخير بعد المجزرة

عبد الله الطويل

الثورة السورية كانت ومازالت الفرصة الكبرى لانتقال سكان هذه الجغرافية من الأيدولوجيا الدينية الى الايدولوجيا الوطنية التي تقبل الكل وتدعوهم مواطنين، حيث يعلن سواد الشعب المبادئ الثلاثة الجامعة الله سوريا حرية وبس، ليست المطالب معيشية بقدر ماهي مطالب تجديد العقد الاجتماعي في هذا البلد الذي أُعلن تأسيسه وفق اتفاقية فرضت منذ حوالي مئة عام تحت اسم سايكس بيكو، تم إثرها اقتطاع شمال سوريا الطبيعية الواصل الى جبال الأناضول مع تقسيم الصحراء بالتساوي تقريباً مع العراق الجديد والأردن الجديد، سوريا الجديدة التي تم ابتكارها لا تشبه أبداً أية سوريا سابقة، ولا ينبغي لها ذلك، وأنا بهذا الكلام أكرر كلاماً قد اكتشفه عقلاء وشعوب أخرى في عصور مختلفة، ولكن لا أقوله اقتباساً إنما اكتشافاً، وأنا فرحٌ فرحَة آدم باكتشاف النار، لقد عاش آباؤنا وأجدادنا دون ان يعطونا تعريفاً واضحاً للانتماء الوطني، فالبعض يمزج بين ثقافة الارتحال البدوي والانتماء الديني ليقضي أيام سكناه في هذا البلد كموطن مؤقت يقوم باستغلاله إلى حين ويورث هذه الفكرة لا شعورياً لمن بعده، لتنشأ أجيال لا تعرف عن الانتماء للأرض التي ولدت فيها شيئاً، والبعض يرى أن الديكتاتور هو سر استمرار وجوده في هذه الأرض فيكون زوال الديكتاتور زوالاً له أيضاً، والبعض يرى أن هذه البلاد هي أرضه التاريخية وهو مضطر للتعايش مع الجميع حتى يظهر التغيير الحقيقي، ولكن ما علاقة الأبناء بتجارب اجداد قضوا منذ آلاف السنين حتى يجدوا أنفسهم فجأة بلا هوية وطنية، بينما تغلق بلدان الشرق أبوابها وتتسلح بالجدران العازلة.

ليس للحرب وجهُ أخلاقي فما أن تُطلق الرصاصة الأولى وتردَ عليها الرصاصة الثانية حتى نغرق في بحر من الرصاص المحمى، الذي سيذيب معه شيئاً فشيئاً أفكار وأجساد القتلة والضحايا، ثم يصهرها معاً ليُنشأ كياناً مسخاً يرتجع التاريخ ويعيد ابتلاع العقول والقلوب، مُفكرةً كانت أو مٌلغاة، عطوفةً كانت أو قاسية.

انطلق الحراك الشعبي في عام 2011 مدفوعاً بردة فعل عاطفية تجاه القمع والدموية من جانب الأجهزة الأمنية، كان الحراك بحاجة الى شريحة نخبوية مستعدة للالتحاق به على الأرض، فاصطدم أولاً بعلماء الدين المنتمين غالباً إلى التيار الصوفي ومنهم معتدلون، حيث كان هذا التيار يمتلك الى حد ما مشروعاً وطنياً ساهم في عزل الطائفة السنية في سوريا عن الأزهر الشريف ومكة، رغم اتهام النظام نفسه بتشكيل هذا التيار متمثلاً بالبوطي الذي انتهى قتيلاً بتفجير مسجده في دمشق، كان معظم رجال الدين هؤلاء يتمتعون بقاعدة شعبية كبيرة وكانوا مؤهلين للحفاظ على روح الحراك ولكنهم جبنوا او تراخوا، وبينما بدأ صوت الثأر يرتفع في مجتمع الضحايا ودفعته الأشلاء إلى تبني وجهة نظر الغائية لباقي المكونات، كان المنظرون السياسيون والمتلاعبون بالكلام يملؤون الدنيا جعجعة في عواصم أوروبا، وهنا فتح الباب على مصراعيه أمام التيار السلفي المنقسم على ذاته للدخول الى ساحة الصراع بما يمثله من مثالية دينية يضاف اليها القدرة العسكرية التي اكتسبها في كل من العراق وأفغانستان، وهكذا وجد الحراك او جزء كبير منه مسانداً شرساً يتماهى مع الصدمة الشعبية تجاه القتل المتزايد يومياً، جبهة النصرة وتنظيم الدولة كمنظمات لا تعترف بالدول القائمة فإنها تتخذها قاعدة انطلاق لتنفيذ مشروع أكبر منها بكثير، فهي بهذه الطريقة تعد عامة الشعب بانتصارات وهمية وحسم غير قابل للتصور، أما النظام فقد استغل الفرصة كاملة بإطلاقه عشرات الجهاديين السوريين الذين قضوا في سجن صيدنايا سنوات طويلة، إن حياة السجن الصغير لا تقبل التعددية ولو بالفكر الديني وخاصة عندما تكون تقسيمات السجن نفسه بناء على الرؤى الايدولوجية والسياسية للسجناء، وهكذا يخرج السجين بعد عدة سنوات بعقلية السجن نفسها، وليساهم شيئا فشيئاً بتحويل المناطق المحررة إلى سجون كبيرة، لا تقبل بغير الفكر الواحد للفصيل المسيطر، عندها فقط يختنق الأحرار من الداخل والخارج ويقررون الخروج حتى تغير الظروف، أما على الجانب الثاني فيزداد الموالون للنظام تمسكاً به رغم قسوة الخسارة كردة فعل على التصريحات الدموية للجانب المعارض، وعندها يصبح أي فكر معتدل مصدر تهديد موازي للحراك الشعبي، فيتم اقصاء الأصوات الوطنية مثل عبدالعزيز الخير وغيره، وفي مقارنة بسيطة بين الجبهة الجنوبية في درعا والجبهة الشمالية في إدلب، نجد أن أهل درعا الذي ابتدأ حراكهم باحتواء من قبل النخب أمثال أحمد الصياصنة وغيره، نجدها أكثر تمسكاً بالمشروع الوطني وبعداً عن الانحياز لصالح الجهات الاقليمية، حيث انحازت الجهات المقاتلة الى الدول التي تتشابه معها في المنظور الفكري فوجد السلفيون ضالتهم في السعودية والإخوان في قطر، فانتهى بهم الأمر أدوات بيد هذه الدول تستخدمهم كأوراق سياسية لا أكثر، ليظهر الجانب الثالث الذي يتمسك بهويته الخاصة ويعزل نفسه عن الطرفين بناء على رؤية قومية او دينية او وطنية مثل الكرد والدروز والمسيحيون الشرقيون، لتتفاوت نسبة مساهمتهم في التغيير القائم سلباً وإيجاباً، ليقعوا في تحالفات اجبارية مؤقتة مع أحد الأطراف حيناً ومع الطرف الآخر حيناً آخر.

ماهي الحضارة؟ بعد سبع سنوات من نثر الأرواح بثمنٍ أرخص من الملح، وأيُ جُرحٍ سيُشفى في كنفِ هذه المرارة!، هذا البلد المُسمى سوريا، وَريثُ غربةِ الكثير من الأعراق والديانات، والوكيلُ الشبه حصري لاستخلاص الثأر الأبدي، يقف في حضرة بابل وآشور وفينيقيا وكنعان ويهوذا والنجف وإستانبول ومكة  والعالم، يغريه العُمران والأزياء العصرية والفتوحات والمجد والخمر والنفط والسيف والسُبحة، وأخيراً يغريه الحنين إلى الأرض والغُربةِ معاً، فتجده مجموعاً مقسوما مضروباً ومطروحاً في كُلِ مكان وصل إليه، أما الغوطة الشرقية أقدم الأراضي المأهولة، التي ابتلعت كُل أصناف البشر حتى صارت لهم وطناً فهذبت نفوسهم وهدأت عقولهم واستراحت على أكتافهم، تواجه في كل لحظة جبروت الديكتاتور وتقف وحيدة أمام الصفعات، بينما يستأثر بها مجموعة من يابسي الرؤوس الذين مارسوا عليها ديكتاتورية الراديكالية فحرموها من أجمل أصواتها رزان زيتونة وسميرة خليل ورفاقهم والكثيرين، باسم الأيدولوجيا والحكم العسكري نُقتل ألف مرة، حتى نكفُر بالأرض ونهجرها لأشباح القرون الغابرة، يا سوريا يأرض الموت الأبدي “أليس يقولون بأنكِ أرضُ الحشر والمعركة الكبرى!” رُحماكِ من هذا العذابْ، حيث لو كان عظماؤنا الراحلون “إن كان من الممكن بعدُ أن نجمعهم ب نا”، لو كانوا اليوم بيننا لحكموا على هذه الأمة البلهاء بأن تصير رملاً يملأ صحراء الهمجية، عن أي سوريين تتحدث؟ هكذا يسألونني فأجيب: عن إخوة التراب والخُبز، فيضحكون وتتعالى القهقهة في حمص وحلب ودمشق وغازي عينتاب وبيروت والرياض وستوكهولم وباريس وموسكو وواشنطن، أبتسم لهم مستهزئاً وأصمُت، “آه من قديسي الصور والعتمة” أقولُ لنفسي، ثم أحتفظ بحزني لعدم تمكننا من إنشاء تيار حقيقي يمثل السوريين ويحاول بجد تقديمنا بالصورة التي كنا نريد أن نظهر بها، أما المؤامرة المزعومة فهي ليست إلا هلوسات ما قبل موت الشمولية كما أعتقد.

أيها الشعبُ البديل من شلالات نيكاراغوا حتى بحار الجليد، أصحاب الأمثال لم يتركوا شيئاً غير محكي، ولكنهم بالمقابل علمونا الكلام على حقيقته وتركوا لنا المعجزة الحية، جارك القريب ولا أخوك البعيد مثلاً، أو بيت الضيق بيساع ألف رفيق، ولكن ما الذي حفظتموه من كلامهم؟ هل اللي بتعرف ديته اقتله! أو اللي بيتزوج أمي بقلو يا عمي!، حسنٌ لم يكونوا كاملين ولن نكون أيضاً، نحنُ فقط من يمكننا اكتتاب آثار جديدة، نحن فقط من يمكننا اكتشاف مذهبنا التوحيدي الجديد، دعوا ما لله لله وتعالوا نتعاهد ألا يكون بيننا بعد اليوم قيصر، صعب؟ نعم، إذن فتيهوا في العالم حتى يأتي اليوم الذي ستصبحون فيه جديرين بوطن، وتغرَبوا في بلدان الصقيع حتى تتعلموا كيف تصنعون لكم شمساً، ولكن ما يزعجني أنكم مضطرون وبسبب الصدمة الثقافية أن تواجهوا مجتمعات سبقتكم بآلاف الأميال على درب الحرية وحُب الإنسان، تتلقون الرواتب الشهرية والدعم لكي تتعلموا التعايش في بلاد لا تقل تنوعاً وموجات فكريةٍ عن بلدكم، حيثُ لا ظلم يُعمي أعينكم ولا سيف يجتز أعناقكم، أما كان أولى بهذا الصبي الذي يحسب نفسه نبوخذ نصر أن يرحلَ باكراً؟، حتى لا يُضطر أن يُسلم ألعابه الهوجاء إلى يد سادة العالم، ويحول الأرض الى حقل تجارب حربية والسماء إلى ساحة تملكها الغربان، ليجد نفسه أداة في يد التمدد الإيراني الحالم بعودة الإمبراطورية الفارسية، أو بيد الروس الذين يزدادون عزلة كل يوم، أما كان أولى بنا أن نقبل أنفسنا على علاتها ونبدأ بناءً حقيقياً لصرحنا المُشتهى!، حتى لا نصبح وسيلة للحالمين بعودة الإمبراطورية العثمانية، لتنتقل سوريا فجأة من بلد شرق أوسطي إلى بلد من بلدان القرم أو أوروبا الشرقية، أو في أقل قدر لنصبح ممثلين لشيوخ القبائل العربية، سأجيبكم بلا، لو رحل باكراً لما فهمنا ولو تراجعنا قبلاً لمتنا ومات البلد، هذه المصائب ليست إلا دروس الوعي وهذه العذابات ليست إلا أضحية الغد، لن يكون بعد اليوم أنبياء ولا رُسل ولا مذاهب شمولية، الشعب هو ابن الله والنبي والرسول والثوري والعاقل، وهو أيضاً الشيطان الكافر المتعصب والجبان، مثالية الأول تُهذِب غوغائية الثاني لتجمع كل التناقضات البشرية في إنسان سوري ليس حفيداً لأحد ولكنه أيضاً حفيد الكُل،

الديكتاتور وأصحاب الأيدولوجيا السوداء يؤمنون فقط بمبدأ الذبح على الهوية الوطنية، كل ما ينزع الى حُب هذا البلد واعتمادها أرض الخلاص الأخير، عليكم باختصار أيها العلويون والسنيون والمسيحيون والدروز والعرب والكرد والكل اعتبار هذه الأرض أرض لجوئكم الدائم وصلّوا عاليا لله أو الرب أو بأي اسم أردتم أن تقوموا من مذبحكم بشراً لا خراف أحراراً لا عبيد، وكونوا موجودين.

حدودها العالم ولا أستطيع عد الدول التي تحدها براً وجواً وبحراً، أما تاريخياً فهي في قلب العالم، عن الأرض أتحدث طبعاً، أما ناسها فقد صاروا هُم العالم، وحتى لا يذيبهم العالم تلاحقهم طقوس الألم أين ما كانوا، حتى لا ينسوا أن يعودوا يوماً ليفتحوا الحدود ويرسوا في بلدهم عظمة العالم.

تلاحقني التجربة أينما ذهبت، ومضات الحراك السلمي في بداية تشكله، اندفاعه واخلاصه ثم فقدانه الثقة بالعالم، فتحوله الى الفكر الاقصائي كرد فعل، ثم احتكاكه المباشر مع أصحاب المشاريع العفنة وانعتاقه منهم، ثم زجه في باحة الصراع الإقليمي والدولي حتى كاد أن ينسى لون العلم الذي كان يحمله في البداية، ثم قراره الأخير بأن يكف عن كونه أضحية للعالم، وقراره بالخروج من أرض الألم الأبدي ليتمسك بأهله في المخيمات وبلدان اللجوء، ثم قطعه للشعرة الأخيرة مع فوضى الأحداث وتراكم القتلة والضحايا، واليوم يبحث عن أرض جديدة تكون أرض السلام المؤقت حتى تحين العودة الآمنة.

غارقٌ أنا في الاقتباسات التي لم أكن لأفهمها يوماً لولا فضل المجزرة علي، مُعتزلٌ عن الضحايا كارهٌ لأكثرية الغاب، منفيٌ أنا في أقرب البلدان تجربة لبلدي وشقيقه الآخر “لبنان”، أعانق ثورة الأرز وأرفض أصحاب القضايا المرتحلة عبر الزمن والمكان أن ينقلوا معركتهم إلى معركتي، مؤمنٌ بالله الواحد كافرٌ باللون الواحد، أحب الثورة وأمشي في شوارع بيروت وكأني في مدينتي، أتجول في الأزقة والحدائق، أجمع الياسمين وأواسي القطط الشاردة، أقرأ أساطير بابل والفراعنة وأجد مواطن الشبه مع ثقافتي، أتعمق بالنظر في لوحات الرواقية الأوروبية وما فوق الواقع لأحطم الارتباط الذهني الراغب بتطويع الأفكار، ثم تحملني خطواتي إلى صرح صغير لرجل يجلس متكئاً بيديه على رجله المتكئة على رجله الأخرى، أجلس قربه على بعد عدة خطوات وأقرأ الشاهدة المعدنية بصمت، وأقول له: سنعود يوماً يا سمير ولكن بغير الأفكار التي أخرجتنا وسنطرد القتلة إلى المزيلة الأخيرة، مزبلة التاريخ، ثم يردني اتصال من صديقي في فرنسا ينصحني فيه بقوة بضرورة الخروج من هذا الشرق القاتل لاسترداد أنفاسي وإراحة جسدي بانتظار الثورة التالية.

 

 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *